صباح الخير
وعكة صحية طارئة جعلتني قبل أيام ملازماً للفراش وحيداً متأملاً كل ماحولي.. الوالدة،الأخوان الأصدقاء، الوطن والصحيفة، لأن ارتباطي بعملي في صحيفة (14أكتوبر) مقترن إلى حد بعيد بارتباطي بالوطن، هذا الوطن الجميل الذي فيه ولدت وإن شاء الله منه سأرحل الى عالم الخلود..نعم تأملت كل شيء ذقت وكراه في مخيلتي وأنا ملازماً الفراش.. كانت فرصة طيبة بالنسبة لي أن اعيد الذكرى إلى أٍشيائي التي مرت في الحياة.. ولعل أجمل الأشياء التي تذكرتها في تلك الأيام هي (أم الدنيا) كما يسميها كل من زارها ولو لأيام عدة، إنها مصر.. التاريخ الذي مازال يسير فوق نيلها.. الحب المسكون في القلب.. الطفولة التي مازالت في العيون بريئة رغم المحن والصعوبات.. مصر الوردة التي تكبر في دواخلي دون ارتواء كأنها انتماء.. كل شيء منذ الرحلة الأولى في مايو 1973م ومصر تسكن معي، النيل، الاهرامات،القناطر، الحسين، السيدة زينب، الدقي، مسرح البالون، مسرح الريحاني، عبدالوهاب، ام كلثوم، عبدالحليم، وشوقي شاعر الأجيال..كل شيء حتى (كشري جحا) و(الامريكان) و(دار العدل) و(مكتبة المدبولي)، أسماء ظلت وستظل محفورة في دواخلي.منذ 3 مايو 1973م وحتى اليوم ، واؤكد حتى ساعة الرحيل عن هذه الدنيا الفانية.. فلماذا كل هذا الحب لمصر والذي بكل تأكيد لايختلف أثنان معي فيه ؟!كثيراً ماأوجه هذا السؤال من الزملاء وحتى من طفلي المدلل/علي/، واليوم أضع بعض الإجابات فيها الخاص والعام..أقول أولاً إن حب مصر لايخصني وحدي، بل حب يسكن قلب كل عربي فالتاريخ وحده يشهد على ماقدمته مصر عبدالناصر للعرب في حربهم ضد الاستعمار، فاليمن وعند ثورة 26 سبتمبر 1962 م كانت مصر جسراً روحياً حاضرة مع الثورة وشاركت في فك الحصار على صنعاء ورخصت الدماء المصرية فوق ارض اليمن وعند انطلاق ثورة 14 أكتوبر 1963 م في جنوب اليمن كانت مصر في المقدمة تدعم الثوار بشتى الوسائل الإعلامية وتدريب المقاتلين واحتضان المناضلين، وكانت أرض مصر عبدالناصر صوت الجنوب اليمني في الخارج.. وهكذا مع السودان والجزائر وسوريا والكثير من البلدان العربية.. لذلك بقيت مصر عبدالناصر في قلب كل عربي،يعشقها قبل أن يراها..ثانياً.. مصر كانت أول بلد ازوره في حياتي وأنا في ربيع العمر (ثمانية عشر عاماً)، ذهبت اليها مسحوراً بها دون أن أشاهدها الا عبر التلفاز، وحيداً أسكنت فيها طالباً للعلم على نفقة والدي ــ رحمه الله ــ، ولكني عدت منها مرغماً بعد حرب أكتوبر 1973م.. فكانت فترة النصف العام التي قضيتها في ارض الكنانة بداية عمري.. بداية تعلقي بالحياة.. قرأتي الأولى لحياتي.. فكان الارتباط بمدينة المدن الساحرة..في مصر يمكنك قراءة التاريخ العربي فالكل جاء أليها وعاش فيها وشرب من نيلها وتصفحت أعينهم من مدرستها الصحفية المتميزة.. وعرفها فيها التسامح الديني.. لافرق بين المسلم والمسيحي الجميع يعبدون الله خالقنا ولكن على منهج دينه وهو دين انزله الله وإن كان الإسلام هو سيد الأديان السماوية كلها.. في مصر تعلمنا نحن العرب أن جذورنا الأولى سكنت في هذه الأرض وتاريخنا منسوب في الكثير منه أليها.. تاريخنا العربي كان وظل وسيظل أمامك وأنت تتنقل في مصر..القاهرة العاصمة المصرية مدينة واسعة نهارها ينام في ليلها وليلها في نهارها.. هذه ليست فلسفة بل حقيقة تعيشها وأنت بجانب المصري البسيط وهو يدخل في روحك اوكسجين حب الحياة.. مدينة لاتشعرك إنك غريب، بل ومن الدقائق الأولى تمنحك بطاقة الانتماء إليها .. وهذا مااشعر به كلما ساعدتني ظروفي لزيارة القاهرة.. أكثر من خمسة عشرة زيارة منذ نهاية عام 1994 م وحتى صيف 2005 م والقاهرة تمنحني الحب وزاد المعرفة بالحياة.. مدينة تتجدد إمام عيني في كل زيارة ولكن قديمها يظل باقياًً، شاهداً على أنك تعيش في قلب التاريخ..مصر كتاب كبير يهفو اليه العرب والأجانب ليقروء فيه وينهلوا من صفحاته العلم والمعرفة.. فزائر مصر لايعود منها الا وجديد أحتشى في داخله.. بلد ومدينة غير بلدان ومدن العالم، خلافاتنا كعرب مسلمين وغير مسلمين تذوب في مصر.. وتتجدد في نفوسنا حب الانتماء لأوطاننا, لأنك تجد وطنك موجوداً في ركن من أركان مصر،ففي القاهرة بنى اليمانيون حياً عريقاً في منطقة الرقي قبل سنوات طويلة يتذكره المصريين.. ولليمانيين ميزة خاصة في حب المصريين لهم .. بمجرد أن يعرف المصري انك يمني يفتح لك باب قلبه لتدخل دون استئذان وحتى الأرض تمنحك الحنان وعدم الوحشة،كثيرة.. وكثيرة الأشياء التي تربطنا بمصر وتجعلنا نتمنى زيارتها والعودة إليها .. فهل فهمتوا الآن لماذا أنا أحب مصر ؟!