أفكار
قلت في حديث ما قبل هذا، إذا غابت الأخلاق حل محلها الهاجس الأمني وحلت الرغبة في تشديد العقاب والزيادة في عدد المعتقلات من اجل التصدي لظاهرة الإجرام وجميع أنواع الأمراض الاجتماعية من فساد وتعاط للمخدرات ورشوة ،إلى غير ذلك واستشرت الأنانية محل التآزر والتضامن والمصلحة الشخصية على المصلحة العامة وكثر التملق ،وكم من أحد يتزلف ويتقرب من اجل قضاء مصلحة شخصية، فيقبل الرؤؤس والأيادي مرددا في نفسه قول المنافق الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر” كم يد قبلتها لمصلحة وكان اشتياقي قطعها لو أمكن”• وفي غياب الأخلاق، أصبحنا نسمع بل نشاهد جارين في خصام وشجار محتدم والجيران يوصدون الأبواب والنوافذ بدل الاندفاع إلى فض النزاع ومناصرة المظلوم وإصلاح ذات البين، وشهودا بالعين لحادث سير بسبب اختراق الضوء الأحمر يستنكفون عن الإسعاف وعن الإدلاء بشهاداتهم إلى رجال الشرطة والى المحكمة معتبرين أن ذلك لا يعنيهم جاهلين أن الظلم إذا لم يقاوم يستشري ويترعرع ليصيب الجميع، ويقول المثل المغربي “إذا كانت لحية جارك تحلق فبلل لحيتك بالماء” ويقول المثل العربي “أكلت يوم أكل الثور الأبيض” أي بمعنى أن ما أصاب جارك من جور اليوم سيصيبك غدا إذا لم تهب لدفع الجور عنه. وقال الله عز وجل: [وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فان فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين] صدق الله العظيم. والمقاتلة هنا في عصرنا الحاضر تنحصر في مناصرة المظلوم على الظالم حتى يأخذ حقه منه ولو كلف ذلك متاعب كثيرة لان الحق كما يقال ككرة القدم لابد أن يتعرض لعدة ضربات قبل أن يصل إلى الهدف. وأصبحنا اليوم نسمع بأنه لا أحد يتدخل لإنقاذ شخص وهو تسلب منه أمواله وأمتعته أو هاتفه النقال. وكم من فتاة سيقت تحت تأثير المخدر أو المسكرات فاعتدي على شرفها وجردت من أمتعتها وحليها ونقودها وضربات دموية بادية على وجهها وفي أجزاء من جسدها بواسطة شفرة . وكم من اعتداءات من هذا النوع تقع في كل ليلة ولاسيما في مدينة الدار البيضاء منها ما هو رائج بالمحاكم ومنها ما لم يحسم فيها لحد الآن. وكم من سائقي التاكسي سلبوا من حصيلتهم اليومية في جولاتهم الليلية تحت التهديد بالسكين. ومن لم يحترف الإجرام والاعتداء على الناس يحترف التسول بأشكال وألوان مختلفة وبعاهات وهمية أو باستئجار أطفال صغار يتامى من أجل استدرار عطف القلوب والأيادي السخية. ومن سوء الأخلاق أيضا إن لم يكن من الخيانة البيع والشراء في أصوات الناخبين ولا خير إطلاقا فيمن يستغل سذاجة وضعف المواطنين ويكذب عليهم ويعدهم وعودا لا حول ولا قوة له بها ليفسد الضمائر من اجل الوصول إلى قضاء مآربه الخاصة أو تقوية نفوذه أو الذود عن مصالحه الخاصة تحت غطاء تمثيل إرادة الأمة .ولنكتفي بهذا القدر من الأمثلة التي تعطينا صورا ناطقة عن تدني وتدهور الأخلاق. ولكن من أسباب تنصل المواطنين والهروب إلى الوراء الصعوبات التي يواجهونها على مستوى مصالح الأمن وعلى مستوى المحاكم في اخذ ورد بحيث يصبح الشاهد والمتدخل في دوامة من المشاكل إن لم يتعرض أحيانا للانتقام. ولا استتباب لأمن حقيقي إلا بتضافر الجهود بين المواطنين ومصالح الأمن. وعلى رجال الأمن أن يلتزموا التحري في أعمالهم لكي يميزوا بين الصالح والطالح. ولن يتأتى ذلك إلا إذا كان رجل الأمن على بينة واضحة وصلة وثيقة بأحوال الساكنة التي هو مسؤول عن أمنها وراحتها. والى جانب ذلك كله بقي أن تكون النية خالصة لوجه الله وبقي الأمر متوقفا على أداء الواجب والشهادة على الوجه الصحيح ليكون التعاون منتجا ومثمرا قال الله عز وجل في كتابه العزيز: [ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فانه آثم قلبه والله بما تعملون خبير] صدق الله العظيم. إن العقاب كعلاج وكخيار وحيد لا يحد من حدة وتصاعد وتيرة الإجرام ومن فظاعته والإحصائيات لدى المحاكم شاهدة على ذلك ولاسيما إذا كان بدافع الحاجة فإذا هو سلاح العاجز وسلاح المستبد إذا اكتفي به دون معالجة لأسبابه. وجل الجرائم الفظيعة وجل حالات فقدان العقول كانت تحت تأثير تناول المخدر أو بسبب تجرع الكحول بلا هوادة .إذا كان المغاربة قلبا واحدا يقاومون الاستعمار ومتحمسين من اجل بناء الوطن في السنوات الأولى من الاستقلال يجمعهم روح الإيثار والمصلحة العامة فلماذا انقلبت الأمور إلى ضدها ؟ هل بطغيان المصلحة الشخصية وحب الاستيلاء على مراكز السلطة؟ أم أن السياسة السياسية هي السبب في كل ما جرى؟ ومع ذلك فلنبق متفائلين لان المغاربة وعلى رأسهم وفي مقدمتهم صاحب الجلالة نصره الله قادرون على تغيير الأحوال من سوء إلى أحسن وإحلال الإئتلاف محل الفرقة وتغليب المصلحة العامة ومصلحة المواطنين جميعهم على أي مصلحة أخرى. إن ذلك ليس بعزيز على العبقرية المغربية. خلاصة القول أن العلاج سهل وان تقويم الأوضاع مبني على شئ واحد ألا وهو القدوة الحسنة والمثل الحسن يقول الشاعر: يأيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم وأروع مثال في القدوة الحسنة ذلك المثال الذي برز عند الشروع في فتح طريق الوحدة في جبال الريف حيث كان المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه وسط جيوش من الشباب والكهول وهو آنذاك وليا للعهد والمعول بيديه الكريمتين يحفر ويقتلع الأحجار وثاني مثال برز في المسيرة الخضراء حينما انطلقت بثلاثمائة وخمسين ألف مغربي ومغربية في نظام وانتظام يتقدمهم أعضاء من الحكومة وشخصيات ورؤساء أحزاب ومنظمات في محاولة اختراق الحدود ومعانقة إخوانهم الصحراويين مسترخصين أنفسهم وأرواحهم ومعطين للعالم أجمع أسطع برهان على التضامن والتماسك والتضحية. لاحياة ولا نجاة إلا في ظل المشروعية . لاحياة ولا نجاة إلا في التآزر والتضامن والتماسك وفي عطف كبيرنا على صغيرنا وقوينا على ضعيفنا. لاحياة ولا نجاة إلا في التمسك بأخلاق القرآن. لاحياة ولا نجاة للإنسان إلا إذا وازن بين الجانب الروحي والجانب المادي شريطة ألايطغى احدهما على الآخر “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”• إن حب الأوطان من الإيمان فلابد أن نربي أنفسنا وأولادنا على حب الوطن وعلى التآزر والتضامن وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وعلى احترام القانون وعلى التحلي بالأخلاق العالية إذا نحن في حاجة إلى استمطار الله الرحمة والعفو والمطر ونعمه الظاهرة والباطنة.[c1]* عن/ صحيفة «بيان اليوم» المغربية[/c]