الذكرى الخامسة لرحيل الفنان الكبير/ محمد سعد عبدالله
يشعر المرء بالحرج عندما يسطر كلماته أمام الشخصيات الفذة ذات الأثر في حياة أمتها وخصوصاً لدى ذلك التعاطي غير العادل بين الجانبين:الأمة وإنسانها في مجتمعات تحكمها أنظمة لا تلقي بالاً لأعزة قومها،ولن أطيل ولن أدخل في تفاصيل هذه المأساة القاتمة في حياتنا.فالحديث هو عن الأستاذ الراحل الفنان محمد سعد عبدالله الذي وافته المنية ولم ننجز اتفاقاً ثنائياً أبرمته معه قبل مغادرتي إلى دولة الإمارات.وكم هو موجع ومؤلم حين نكبنا بوفاته!وفاجعتي كانت من نوع آخر لا لسبب،بل لأسباب منها:-أولاً: أنه كان من المقربين إلى القلب والبعيدين عن العين بحكم انشغالات الحياة،ويكفيني منه أنه قد عاش طفولته في المنزل نفسه الذي ترعرعت فيه وبدأ حياته الفنية مع والدي الفنان الراحل محمد سعد صنعاني.ثانياً: إنني كنت أعرفه كفنان عبر الإذاعة سمعته وبالتلفاز رأيته وقرأته في أكثر من دورية صحفية.ولكن كإنسان فقد اقتربت منه في السنتين الأخيرتين وذلك عندما أثر العيش بمعزل عن الأضواء وعن الناس الذين أرهقوه..عزلة فرضها المرض وتعب الحياة الفنية والاجتماعية الممتدة لأكثر من أربعة عقود من الزمن.ثالثاً: لأن هناك أشياء مكتومة في صدره وعدني بالبوح بها عن المشوار الماضي من حياته،وجديدة تتألق في أعماقه لم تبث بعد لأحد لدى وداعي له،ووعد قائم وواعد لأحاديث عامرة كان محمد سعد صنعاني أحد زواياها.رابعاً:(وهنا يزداد حزني عمقاً) أنني افتقدته وشاء القدر أن يرحل دون وداع ودون سابق إنذار..ولم يتسن لي بل لم يدع لي فرصة لأسمعه فقد رحل أثناء غيابي لأعود وأجد مكانه خالياً.ربما تكون السنتان الأخيرتان اللتان اقتربت فيهما منه قد لامست خلال زياراتي له(العزلة) التي فرضها على نفسه ووجد فيها سلواه،وقد تطفلت في إحدى المرات وسألته عن إيثاره الصمت والبعد عن الناس؟فأجابني(تعبت من كل شيء حتى من الناس،لا أحد يهتم بك،وبلدك عايش فيها عيشة الغريب الممتهن) ربما فهمته واستوعبت ماهو فيه..سنذهب إلى لحج ولكن لا تعطي خبر عن وجودي ".سأمكث بضعة أيام في منزل أخي محمد سعد..أفهميني يا ابنتي..أجبته(فهمت).ومضيت لأعود لتنفيذ ما وعدت به،ولكنه خلف وعده وما عادته يخلف الوعد،رحل أستاذنا مثخنا بالجراح..وكان بكامل شخصه جرحاً مفتوحاً،اسمع أنينه وأدرك مداه..الرجل وهب حياته للفن واشتق طرقاً وعرة لم يسلكها أحد قبله،وقدم عصارة روحه لأمته ثروة غنية وضخمة ليحصد المرارة والإهمال المتعمد فماذا قدمنا نحن له؟هل سأل كل فرد ما أعطى وعلى قدر ما حصد من الجحود من أحبته،وغير أحبته.فالرجل قد عبر بهذا الفن الراقي في نوعيته الغني في مضامينه،الجديد في اتجاهاته والمتعددة مساراته،ونقله إلى ما وراء الحدود..تناقل القاصي والداني فنه وعبق شذاه من المحيط إلى الخليج.وهنا استدل بجزئية من ذلك الانتشار والعطاء الذي قوبل بالجحود والتمادي إلى السطو..فذات ليلة من ليالي دبي أثناء مهرجانها السنوي كنت في مقدمة الحاضرين في سهرة عبادي الجوهر،في دبي بقاعة المجمع التجاري وكان محمد سعد عبدالله حاضراً بيننا يبهرنا حضوره من خلال رائعته(كلمة ولو جبر خاطر)التي استهل بها/عبادي الجوهر،مجموعته الغنائية،سحر هذه الأغنية وسعادتي بها وبصاحبها.جعلني افتح خطا هاتفياً،هاتفت خلاله محمد سعد عبدالله وأسمعته صخب القاعة وطلبت منه أن يشاهد التلفاز لأن هناك نقل مباشر للحفل على قناة دبي الفضائية كان قصدي إسعاد حبيبنا وفناننا محمد سعد،ولكنه سألني فيما لو قد أعلن عن شاعرها وملحنها من قبل عبادي الجوهر؟ أجبته بالنفي..فرد بمرارة(هذه عاداتهم يتجاهلون الحقوق الأدبية للفنان!)..أنهيت المكالمة معه وسطرت رسالة مختصرة للفنان عبادي الجوهر،ولا ادري إن كان(البودي جارد) كما يطلقون عليه هناك(مرافقه الشخصي)،أوصلها له أم تجاهلها كما تجاهل سيده الحق الأدبي لأستاذنا القدير محمد سعد عبدالله،ولكنه عقب انتهاء الحفل أبلغني أنه سيتصل به شخصياً وهاتفت أستاذنا بأن عبادي قد وعد بالاتصال وأنني قد سطرت له نمرة هاتفه مع مفتاح الخط لليمن،وفي اليوم التالي شعرت إلى أي مدى اتصالي قد أوجع الأستاذ محمد سعد وشكل إضافة إلى ألمه ووجعاً إلى وجعه،حين نفى أي اتصال به من قبل عبادي الجوهر إلى آخر لحظة ودعته فيها،أمثال عبادي الجوهر من فناني الجزيرة والخليج كثير ممن يجلبون آلاف الدولارات إلى جيوبهم بجهود غيرهم،ويحققون نجاحات هي في الأصل ملك لغيرهم.أعود إليه..وتؤلمني عودتي إليه وقد توارى عن ناظري!بيد أنه باق معنا بما ترك،غنى بفقره،شامخ بعزة نفسه أبي كل الإباء عظيم بتواضعه شريف،نظيف..أعطى ولم يأخذ،أثرى ولم يبخل.وأعود معه إلى ذات السؤال ماذا قدمنا للرجل الذي أثرى حياتنا ووجداننا،وأغنى فننا بإبداعاته وعطاءاته؟لقد ظل مرمياً في مستشفى الجمهورية التعليمي بعدن في القسم العام دون التفاتة إلى ماتميز به من مآثر،ثم أتى العطف متأخراً في اليومين الأخيرين ليدخل الغرفة الخاصة في وقت يحظى فيه أصغر تنابلة نظامنا الموقر بالعلاج في أكبر مشافي أوروبا،وعلى حساب الدولة الموقرة،وهم لا يقدمون لهذا الوطن سوى تبعات أكلهم ونومهم وفضلاتهم وسلوكياتهم التي تزكم الأنوف..بينما(ثروة قومية) تنام في مستشفى عام دون اكتراث أو اهتمام من قبل السلطة التي تداعت هيبتها بتداعي أخلاقها..ومع ذلك الاهتمام يظل محمد سعد عبدالله،علما من أعلام الفن اليمني،ونجما يضيء سماوات هذا الوطن المغبون برحيل رجاله وأعزته،ومنهــم محمد سعد عبـــدالله.