على الرغم من الأهمية التي يحتلها الأدب الشعبي؛ فإنّ العناية بفن (الأراجوز) بوجه خاص، لم تكن بالقدر الذي تدل عليه بقية الوسائل التعبيرية الأخرى، التي خرجت من عباءة الثقافة الشعبية التي تدعونا إلى تأمل الأراجيز أو كافة الأشكال المتداخلة في بُنية الثقافة التي تجلّت أيضاً في صور مختلفة (لخيال الظل)، وفن العرائس وغيرها من الفنون التي التصقت بالوجدان الشعبي وانتقلت من مكان إلى آخر تحت تأثير عوامل داخلية وخارجية على المستويين المحلي والعربي.بمعنى أنّ هذه العوامل غير منفصلة عن الواقع وطريقة التعبير عنه مع إبقاء فسحة ضرورية للاستفادة من الموروث السردي، من هنا ليس غريباً أن يُلاحظ المتتبع للحكايات والأساطير العربية، أنّ القصص التي يجري تداولها على اختلافها متشابهة، فعندما نسمع حكاية ما نشعر أنّها رواية من (عدن) مثلاً، أضف إلى ذلك ما نتج عن اتصال (عدن) بالحضارات والثقافات الأجنبية من الانفتاح على كثيرٍ من المعارف استطاع معها الفن والأدب والتجارة والتاريخ التجديد منذ الجاهلية مروراً بعصر الثورة التجارية إلى حيث أراد (طز البيسة) وتابعه (حمبص) أن يبقى هذا الفن .إذاً كيف عرف فن (الأراجوز) (الكركوس) بالدارجة طريقه إلى (عدن)؟أولاً : لما بينها من صلاتٍ وشائج لا يمكن تجاهلها مع كثيرٍ من ثقافات وحضارات الشعوب.ثانياً : لبساطتها ومقدرتها على النفاذ إلى الآخر.بسبب هذه العوامل كانت الثقافة الشعبية بوسائلها المختلفة هي الأقدر على عكس خصائص المدينة الكموزموبوليتانية.وإذا كان (الأراجوز) يُعد إرثاً شرعياً للحضارات الفرعونية والإغريقية والهندية؛ فإنّه يعتبر أيضاً الأب الحقيقي لكثيرٍ من الحكايات التي تلت هذه الحضارات بقرونٍ في أوروبا منذ العصور الوسطى.كل هذا التراث الهائل ليس العربي فحسب بل وغير العربي وما قبل العربي لا يمكن تجاهله أو تركه؛ وكأنّه لا قيمة له، فكل ما ورد في التراث من قيمٍ روحيةٍ وفنية واجتماعية يجب أن نتمسك بها، كالقصص والحكايات التي تروى ويُضاف إليها ما تحتفظ به الكتب؛ لأنّه يوازيها من حيث تأثيرها المباشر.وبالإمكان تلمس مظاهر أية حياة أدبية في (عدن) منذ قرون، ولكن في الأربعينات تحديداً، نشطت الحركة الأدبية فيهان فهناك عدد من الشعراء المرموقين وكُتَّاب القصة المتميزين، وكُتَّاب الأعمدة الصحفية، والفنانين والموسيقيين والمؤرخين ورجالات التعليم والدين والسياسة والاقتصاد والقانون والأدب وأناس ثقافته.وإذا ما رجعنا على ذكريات فن (الأراجوز) خصوصاً فسنجد أنّ عدن في هذه المرحلة كان احتفالها بالعرائس وخيال الظل مهماً ومتميزاً، وتكفي قراءة تاريخ تلك المرحلة لنكتشف كيف كان الناس يعيشون حياتهم ببساطة أدركت سر مغناطيسية هذه المدينة التي فتحت منافذها لتخلق رؤيتها الخاصة فكل شيء يحدث يومياً بمدنها الصغيرة من داخل تركيبتها المكانية (مُعاش ومسموع ومتداول) حفلات وأعراس بالشوارع وكان اللاعبون والراقصون والمغنون الشعبيون يجوبون أحياء هذه المدن ويقومون بالترفيه عن الناس ويعرضون أعمالهم وتمثيلياتهم ومدائحهم مقابل أجر زهيد.و(الأراجوز) خصوصاً عكس غيره من الفنون ولد من الحاجة إلى وسيلة تعبير شعبية يكون لها تأثيرها المباشر في النفاذ إلى قلوب وعقول العامة واعتقد أنّه من حُسن حظ (أبو شنب) و(حمبص) و(أبو تمزة) وغيرهم أنّهم تتلمذوا على أيدي شخصيات اجتماعية معروفة وأساتذة أرشدوهم على حقيقة الوعي بأهمية الوعي الشعبي، وهم الذين جعلوهم أيضاً يناقشون قضايا المجتمع وهمومه والخروج برأي يتعلم منه الناس إدراك المعاناة اليومية التي يعانيها أبناء البلد من سياسة المستعمر وأتباعه.وبالنظر إلى محتوى أصحاب هذا الدور الكبير على هذا ا لصعيد من حيث قواهم المحركة فهم وبلا أدنى شكٍ شكلوا محرك قيادي لمختلف الفئات بكل انتماءاتها الفكرية السياسية والشعبية، بهذا المعنى أصبح واضحاً التناسب بين الوعي والعفوية بكل ما يحمله هذا التعبير من معنى غيّر تصورات كثيرين عن النضال وأساليبه على صعيد الدعاية والتحريض وخلق البلبلة بغرض محاربة الأفكار الاستعمارية وإعادة توجيه عقول الناس باتجاه الضحكة الساخرة والنكتة الساخنة، إضافة إلى ما حققه هذا الشكل بغض النظر على تهريجه أحياناً فقد أظهر (الأراجوز) قدرته الإبداعية الخاصة على تحدي آلة القمع الاستعمارية، وهنا يمكن أن نستذكر بعض العبارات التي يرددها الأهالي بعد (طز البيسة) بائع التباتيك الجوال – على أكثر من صعيد ومنها ما هو على صلة بالسياسة التي أخذت بالتبلور في المجتمع العدني آنذاك ومنها ما أسهم في خلق حالة من الوعي بالمفاهيم الاجتماعية، ويمكن أن نستدل على هذا الموضوع من طريقة الاستجابة الجماهيرية لتلك النكات التي أصبحت لها دلالة ومغزى يتوجب تحليله بشكل مختلف عن الأساليب التي مضت غليها التجارب التعبيرية الأخرى، وفي هذا السياق نذكر – على سبيل المثال لا الحصر – يا مُسلِّم يا سلام الحمامة أكلت الطعام، وكله على السنبل يا رنبل، فُك البوك يا بن بوك فين كنتِ يا مليحة فين كنتِ مستريحة ونصراني في عانة عانتين نصراني ملعون والدين، والطير إذا يحبك با يهبلك، وإذا الطير ما يحبك ما بيهبلك!وحيث أنّ هذه المقولات لم تبتعد في مراميها عن مجمل المقولات التي طرأت على الظروف العامة بحيث أصبحت أية عبارة أو حركة كفيلة بانتزاع الضحكة بصورةٍ لا تخلو من الدهشة.وحتى لا نبتعد كثيراً دعونا نعود إلى الأراجوز الذي أخذ يرسخ معنى جديد للأطفال على نطاق واسع في أحياء عدن وشوارعها، وكيف أصبحت عربة بائع (التباتيك) معبرة عن اهتماماتهم من زوايا مختلفة وقد وجد هذا النوع ترجمته الثقافية بإقبال الأطفال عليه من كل الأعمار.لكننا هنا نود التعرض لأحد عوامل انتشار فن (الأراجوز) والذي يكمن على وجه التحديد في نضج العامل الذاتي وتنامي الوعي بين أوساط الشعب وتبلور العملية التربوية التي شكلت نقلة نوعية تاريخية في الفكر والممارسة على مستوى التحولات البنيوية والنوعية.ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّ هذه العوامل لها آثارها المرحلية في استلهام الجديد وتبديل ما هو قائم لكل ما رافق تجربة الكبار برؤية جديدة تعترف بحق الطفل وتمنحه خصائصه الملائمة بصورةٍ مباشرة.هذا جزء من المخطط الفني للكبار وجزء من محاولة تقديمه للصغار؛ لأنّه لو عدنا إلى الأربعينات ستكون هناك المرأة العاصية التي لا تسمع الكلام والدوارة والعسكري والرجل العاطل والجارة النقمة أو النمامة، وبالتالي يمكن أن يكون هناك طفل مشاغب وآخر شره في النهاية، نجد أنّ (الأراجوز) له تنميطاته أي قيمة النمطية وهي جزء من المجتمع في ذلك الحين والحكاية الصالحة للأسرة وللأطفال بينهم.غير أنّ التراجع الواضح (للأراجوز) بعد مدة طويلة من النجاح بسبب عددٍ من المستجدات جعلن من الفن الذي لا يقبل بديلاً له مشروعاً غير مكتمل وعندها يبقى السؤال الأهم كيف استطاع(الأراجوز) كنتاج شعبي أن يدير ظهره للثقافة الشعبية بعد عشرين عاماً من تجسيده على أرض الواقع فتحول إلى مجرد مظلة للخدع المضروبة، ويقيناً أنّ قدرة الحاوي الهندي على قطع رأسه من (الترقوة) وحمله بين يديه، خدعة بصرية مقنعة صحيح أنّها لم تقلل من قيمة التجرِبة المحلية بكل ما توصل إليه عبدالرحيم (أبو شنب) و(حمبص) من مهارة شكلت ظاهرة فنية مشهورة آنذاك ولكنهم أدركوا تماماً أنّ ما قام به الحاوي الهندي كان أدهى بكثيرٍ؛ لأنّه فصل رأسه عن جسده وحمله بين يديه (ذلك هو الفرق وتلك هي الخارقة) واعتقد أنّ هذه وتلك كانت مفقودة بشكل واضح في التجربة المحلية.وبالطبع الأراجوز مثلما أثار الإعجاب بقدر لا يستهان به تراجع إلى الوراء بالقدر نفسه، فلم يكن هناك تلفزيون بعد ولا برامج أطفال تعترض طريق نجاحه، ولكن من أسباب تراجعه أمام شعبية (البالب فيكشن) أو الكوميكس (COMECS) لذات السبب فتخلص الناس من تحيزهم للعرائس و(الناظور) أو صندوق الدنيا بعد أن خصصت دور العرض جزءاً من عرضها يومياً للرسوم المتحركة أو الرسوم الكارتونية باعتبارها حدثاً جديداً أدى في نهاية المطاف إلى إعفاء (الأراجوز) وتباتيك البائع الجوال من مهامهم وخصوصاً بعد دخول التلفزيون إلى عدن في بداية الستينات وقد انعكس ذلك سلباً على تراجع جماهيرية الكركوس وغيره من الألعاب الشعبية التي أصبحت عروضه موسمية واقتصرت على تقديم نمر قديمة ومكشوفة.ولأنّ الكتب كفيلة بتقديم بعض النماذج المعروفة باسم أدب الطفل؛ إلا أنّه استجد في المسرح المدرسي والراديو مضامين أخرى نقلت هذا الأدب إلى مستوىً آخر معه تقدمت فنون القصة والشعر والاسكتشات الغُنائية والتمثيليات ومسرح الدمى ومجلات الأطفال أيضاً بل كانت السينما، وكما جاء عصر التلفاز وعرف العالم صناعة الكارتون، شهدت ثقافة الأطفال قفزة علمية كبيرة بدخول العالم عصر الرسوم المتحركة التي فاقت أرباحه عوائد بعض المنتجات المهمة.ولعل المتتبع لتاريخ (الأراجوز) بصفة خاصة نجد أنّه شهد فصولاً من نهايته على يد التلفاز وربما كانت هذه النهاية عبارة عن نتيجة معلنة لاختفائه، للأبد رغم حضوره القديم لو قيس (بالأراجوز) في مصرَ مثلاً أو أي بلدٍ آخر، وقد يكون السبب هو سياسة الإهمال التي عانى منها الطفل وخصوصاً افتقاده للمسرح ولأشياء كثيرة مهمة في ثقافة الطفل على تعدد أنواعها.الهوامش :- اعتمدنا بصورةٍ أساسية في كتابة هذه الدراسة على ذكريات، عبدالرحمن بن نور باب، عبدالله محمد سعيد بن نبلان، سالم مفتاح عبيد.- انفردت (عدن) وبالذات مدينة الشيخ عثمان بالصف الفني المعروف (بالكركوس)، وأثبتت الدراسات أنّ ثمّة تداخلاً بين فن خيال الظل والأراجوز والعرائس، فالأراجوز يتم تحريكه عن طريق أصابع اليد، وخيال الظل يستخدم العرائس المسطحة.- والكركوس باللهجة الدارجة، هو عبارة عن نتاج شعبي أخذ ينتقل من مكان إلى آخر وظل مرتبطاً أكثر بالفئات الشعبية، قصصه تحت مناحي شتى سياسية واجتماعية وهزلية مغلفة بالنوادر والحكايات المرحة.- وقد أشار الكاتب والفنان أديب قاسم في دراسة له نُشرت في مجلة الحكمة عن (الأراجوز) الذي ظهر في عدن سنة 1942م.- هناك فرق بالمقصود من السرد الشفوي (قصص العامة) والسرد النصي قصص الخادة وأنواع هذا السرد والسمات والخصائص التي تفرق أو تجمع بين كل منهما.- ظهرت عروض (الأراجوز) في كثيرٍ من أحياء عدن وخصوصاً مدينة الشيخ عثمان وكان يمارس هذا الفن في زيارات الأولياء والموائد الدينية والإجازات الرسمية.- عبدالرحيم (أبو شنب) حاوي مشهور من أبناء كريتر كان مقره الدائم أو عشَّته الخاصة بعروض (الأراجوز) تُقام بجانب قبة ولي الله الصالح الهاشمي في مدينة الشيخ عثمان.- وعلى حسين طز البيسة وتابعه حمبص من أبناء مدينة الشيخ عثمان و(علي حسين) بائع تباتيك جوال، والتباتيك تعني عربة اليانصيب التي تحتوي على عرائس وألعاب وفناجين وأقلام وفرافير.- وقال إنّ الأراجوز هو الفن الذي يجسد السخرية؛ لأنّه يقوم على الشكوى من العيش ومن تقلبات الزمن ومن صعاب الحياة، ومعظم عروض الأراجوز لم تدون ويستبعد أن تكون نصوصه مكتوبة.- ويرى الناقد الدكتور محمد مندور : إنّ الأراجوز فن اقرب إلى التهريج الشعبي من خيال الظل وأنّ تمثيلياته لم تكن إلا مرتجلة أو محفوظة وأنّه لم يكن يثير غير الضحك دون أن يسعى إلى إيقاظ الفكر أو إلهاب المشاعر.- COMICS سُميَّت بالبالب فيكشن وهي عبارة عن رسوم كرتونية مهمتها رواية الحكاية بالصور الفوتوغرافية.- ما لحق ذلك من تدمير مستمر للذاكرة المحلية لعدن.المراجع :(1)- خيال الظل وتمثيليات ابن دانيال (الدكتور إبراهيم حمادة).(2)- التراث القصصي في الأدب العربي تأليف الدكتور محمد رجب النجار.(3) جوستاف لوبون في كتابه الحضارة المصرية.(4)- الصحف والجرائد والمجلات : مجلة الكويت العدد 261 دراسة للباحث عماد جمعة . السنة 2005م.(5)- مجلة الحكمة العدد 88 أكتوبر 1988م، دراسة نشرت للأديب والفنان أديب قاسم علي بعنوان تخطيط أدبي لمسرح العرائس .
|
ثقافة
الأراجوز وسؤال ثقافة الاطفال !!
أخبار متعلقة