محمد زكريا :الملك المعز إسماعيل بن طغتكين الأيوبي ، اضطرب المؤرخون في تحليل شخصيته اضطرابا شديداً ، البعض وصفه بالشجاعة ، والفروسية ، والكرم , وأنه أول من أسس من سلاطين وملوك الأيوبيين المدارس الإسلامية في اليمن , والبعض الآخر قال عنه إنه كان متعطشاً للدماء ، شديد القسوة والعنف إزاء الجميع ، وأنه ليس رجل دولة ، وأنه كان منغمساً في اللهو والملذات في بياض النهار ، وسواد الليل . تاركاُ شئون الحكم لوزرائه مما أفقده كرسي الحكم ، وأفقده أيضاً حياته . وعندما اختفى عن مسرح الأحداث السياسية في اليمن ، كان ذلك إيذاناً حقيقياً بغروب شمس الدولة الأيوبية التي حكمت اليمن ما يربو عن خمسين سنة شهدت فيها أحداث جسام ، وأمور عظام . [c1]شخصية متناقضة :[/c]والحقيقة أن شخصية السلطان الملك المُعز الذي قال عنها المؤرخون القدامى بأنها شخصية متناقضة مع نفسها لا يمكن أنّ نأخذ كلامهم كأمر مسلم به لا بد من شرحه وتفسيره ، وتحليله وبعبارة أخرى يجب بل ويتوجب أنّ نضع شخصية الملك المعز الأيوبي تحت مجهر البحث التاريخي الأكاديمي , بغرض رسم ملامح شخصيته بصورة دقيقة ومحاولة فهم الأوضاع السياسية التي ألقت بظلها على الملك المعز الأيوبي . وفي واقع الأمر ، لقد أثار المؤرخ ( بامخرمة ) المتوفى سنة ( 947هـ / 1540م ) الكثير من المتناقضات حول شخصية الملك المعز ، فهو يقول تارة إنه دخل في مذهب الإسماعيلية وتارة أخرى يقول عنه أنّ نسب نفسه إلى بني أمية ، وأدعى الخلافة .[c1]في داخل القصر :[/c]والحقيقة أنّ المؤرخين القدامى ومنهم مؤرخنا بامخرمة وصفوا الملك المعز إسماعيل الأيوبي وصفاً قاتماً, لكونهم اعتمدوا على الكتابات الأخرى التي شوهت صورته أو بعبارة أخرى استندوا على كتابات خصومه السياسيين ، فلم يقفوا عندها ، ولم يسألوا أنفسهم ، هل تلك الاتهامات حقيقة أم محض افتراء ؟ . ولا نذهب بعيداً إذا قلنا أنّ الملك المعز إسماعيل ، ربما تعرض إلى مؤامرة ومكائد من داخل القصر من قبل وزرائه وقادته أمثال الأمير الكردي سيف الدين سنقر الأتابك الذي كان في معية السلطان الملك طغتكين الأيوبي المتوفى سنة ( 593هـ / 1169م ) في حملته إلى اليمن بغرض تثبيت أقدام الحكم الأيوبي بعد أنّ خلع بعض الأمراء الأيوبي طاعتهم عن السلطنة الأيوبية في مصر . وقد كان من كبار أمرائه, وبعد خلو الساحة السياسية من السلطان الملك طغتكين ، وجد سنقر الأتابك ، أنّ المناخ صار مناسباً له لتحقيق مآربه و طموحاته السياسية وهو الجلوس على كرسي الحكم , إزاحة أبنه المعز عن الحكم ، ومن المحتمل أنّ الأمير سنقر الأتابك أطلق العنان لتلك الإشاعات أو تلك الاتهامات لتشويه صورة الملك المُعز في أعين الرعية وبذلك يكون من السهولة إقصائه من سدة الحكم . [c1]المؤرخون القدامى :[/c] وربما يكون الملك المعز ، قد ساهم بشكل من الأشكال في تلك الاتهامات التي ألصقت به ولكن ليس بالصورة البشعة الذي رسموها هؤلاء المؤرخين له . والحقيقة أنّ ( بامخرمة ) يناقض نفسه في وصفه لشخصية الملك المعز فتارة ينعته ــ كما أشرنا ـــ أنه كان غشوماً ، جباراً ، متعطشاً للدماء ، وتارة أخرى يرسم له صورة ألوانها الفروسية ، وظلالها الشجاعة والكرم ذلك التناقض الشاسع في أقوال مؤرخنا ( بامخرمة ) يؤكد أنّه روى المعلومات عن صفات الملك المعز عن آخرين دون الوقوف على حقيقتها وبتعبير آخر لم يشرح ، ويفسر ، ويحلل تلك المعلومات حتى يظهر الغث من الثمين ، ويبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود منها . والحقيقة أن المؤرخين القدامى ، كان ذلك دأبهم حيث كانوا ينقلون الأخبار ، والمعلومات كما هي حتى إذا أحتوت على الغرائب والعجائب. والحقيقة أنّ بامخرمة وغيره من المؤرخين اليمنيين القدامى ، كانوا من أبناء المدرسة التاريخ التقليدية التي كانت سائدة في عصرهم حيث كان يدور اهتمامها على الرواة وليست على المرويات “ ومن المعروف أنّ مدرسة التاريخ الإسلامي تتصف بصفات خاصة ترجع في الحقيقة إلى طبيعة نشأتها وتطورها ، فقد بدأ التاريخ عند العرب المسلمين فرعاً من علم الحديث ، فكان حرياً أنّ يتأثر بطريقة المحدثين في الرواية التاريخية ، ونقدها ، ولذلك كان النقد عندهم ، أو الجرح والتعديل ، كما كانوا يسمونه ، ذاتياً منصباً على الرواة لا موضوعيا منصباً على المرويات “ . [c1]عدن في عهد المعز إسماعيل :[/c]عدن تلك المدينة الهامة التي تمد خزانة الملوك والأمراء بالأموال الطائلة بسبب ميناءها المزدهر دائما بالحركة والنشاط التجاري الكبيرين ، فقد كانت همزة وصل بين تجارة الهند والشرق الأقصى وبين الغرب . وكان لذلك السبب يهتم ويعتني بها الملوك والأمراء والحكام اعتناء كبيراً . وعندما وصلت السلطة إلى يد الملك المعز إسماعيل بن طغتكين ، كان من البديهي أنّ يركز هذا الملك كل وجل اهتمامه إلى ميناء عدن ولكن المصادر التاريخية لا تذكر عنايته بمدينة عدن أو بمينائها ويرجع ذلك إلى أنّ الاضطرابات والفوضى والقلاقل السياسية عمت في عهده كما أنّ الملك المعز ، كان منغمساً في اللهو والملذات بعيداً عن شئون حكم البلاد كل تلك العوامل ألقت بظلها الثقيل على المدينة ومينائها المعروف بنشاطه التجاري الواسع وبتعبير آخر أنّ شخصية هذا الملك أثرت تأثيراً سلبياً على مدينة عدن . وهذا ما دفع بأحد الباحثين أنّ يعلل الأسباب الحقيقة وراء تدهور الحياة الاقتصادية في المدينة إلى شخصية الملك المعز ، قائلاً : “ . . . أتصف ( المعز ) بالتهور ، وكان يهتم بمجالس الشعراء ، وحلقات اللهو أكثر من اهتمامه بالحكم ، وعرف بسرعة البطش ، وشدة العقوبة ، وسفك الدماء . . . “ . ويعقب ، قائلاً : ومن الطبيعي أنّ حاكماً بهذه الصفات لا يمكن أنّ يسير أمور البلاد بصورة صحيحة ، فانتشر الاضطراب وعمت الفوضى أرجاءها “ . ونستخلص من كلام الباحث أنّ عجلة الحركة التجارية في ميناء توقفت بسبب عوامل الفوضى ، والقلاقل السياسية التي سادت عهد حكمه بسبب انغماسه في اللهو ، والملذات بالإضافة إلى المؤامرات التي دبرها خصومه أمثال القائد الاتابك سنقر الذي كان بينه وبين الملك المعز خصومه شديدة والتي سنتحدث عنها بعد قليل بشيء من التفصيل .[c1]في المذهب الإسماعيلي :[/c]ويذكر المؤرخ أبو مخرمة أنّ السلطان الملك المعز إسماعيل ، كان أكبر أولاد السلطان طغتكين بن أيوب ، وأنه كان يعتمد عليه في كثير من أمور الدولة , ولكن وقعت بينه وبين أبيه جفاء حيث علم الأخير أنّ ابنه دخل في المذهب الإسماعيلي ، علماً أن السلاطين الأيوبيين ، كانوا من أشد أنصار السُنة وعلى رأسهم السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي المتوفى سنة ( 589هـ / 1193م ) والذي قوض الدولة الفاطمية في مصر ، وأحل المذهب السُني فيها بعد أنّ كان المذهب الاثنا عشرة (الباطني) مسيطراً على مصر والعديد من البلدان العربية والإسلامية أمثال اليمن فترة من الزمن في عهد الدولة الصليحية ، وأعادها إلى الخلافة العباسية السُنية في بغداد . وفي هذا ، يقول أبو مخرمة عن سبب الخلاف الذي حدث بين الملك المعز إسماعيل وأبيه طغتكين : “ الملك إسماعيل بن طغتكين بن أيوب سلطان اليمن في عصره ، كان أكبر أولاد أبيه ، وكان يعوّل عليه ، فظهر لأبيه منه الخروج عن مذهب السُنة فطرده “ . ويضيف قائلاً : “ فأدرك ( الملك المعز إسماعيل ) العَلم بموت أبيه وهو في المخلاف السليماني ( جيزان ) فرجع إلى اليمن فدخل زبيد 19 القعدة سنة 593هـ ، فمكث بها يوماً ثم خرج منها إلى تعز ، فأقام بها ، وأظهر مذهبه القبيح فقويت به الإسماعيلية حتى طمعوا في إبطال مذهب السُنة “ . [c1]تفنيد الاتهامات :[/c]والحقيقة أن ما ذكره بامخرمة يحتاج إلى وقفة لتحليله حتى نصل إلى أقرب نقطة من قلب الحقيقة . فقد ذكر أبو مخرمة ، أنّ طغتكين والد الملك المعز ، كان يعتمد عليه في كثير من أمور الدولة . وهذا دليل بأنه كان رجلاً ، متمكناً على إدارة شئون السلطنة الأيوبية في اليمن . وهذا ما جعل والده يعتمد عليه في إدارة شئون المملكة في أثناء حياته . أمّا حول ّ سبب الخلاف الذي وقع بين الملك المعز إسماعيل وأبيه السلطان طغتكين هو أنّ الأول دخل في المذهب الإسماعيلي . والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل يعقل أن يدخل الملك المعز إسماعيل إلى المذهب الإسماعيلي في الوقت الذي كان ذلك المذهب قد قضي عليه سياسياً وأنكمش روحياً في مصر واليمن وغير ذلك من البلدان العربية والإسلامية ؟ . علماً أنّ المذهب الفاطمي أو الإسماعيلي في اليمن كان روحياً أكثر منه سياسياً ، فيفهم من ذلك أنه لم يكن له تأثيراً خطيراً يذكر على الحياة السياسية في اليمن . بخلاف المذهب السُني الذي كان يمثل قوة سياسية وعسكرية مباشرة في اليمن نظراً لقوة الدولة الأيوبية التي كانت تدعمه لكونها كانت أقوى دولة في العالم العربي حينذاك ، واستطاعت أن تقوض المذهب الإسماعيلي الرسمي للدولة الفاطمية في مصر ، وأنّ تجعله أثراً بعد عين . وهذا دليل بأنّ المذهب الشيعي الفاطمي لم يكن له رسوخاً بين المصريين على الرغم من حكم الفاطميين لمصر على ما يربو عن مائتي عام ـــ على حد قول الدكتور قاسم عبده قاسم ـــ ومثلما كان المذهب الإسماعيلي غير راسخ الجذور في تربة مصر ، كان ــ أيضاً ـــ باهت اللون في اليمن . وهذا ما يؤكد كلامنا الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً : “ ويلاحظ أنّ النفوذ الفاطمي في اليمن كان نفوذاً روحياً أكثر منه سياسياً ، أمّا النفوذ الأيوبي هناك فقد كان نفوذا سياسياً مباشراً إذ ألحق اليمن حينئذ بمصر اعتماداً على قوة الأيوبيين العسكرية “. [c1]سفاكاً للدماء :[/c]وإذا كان الملك المعز إسماعيل عنيفاً ، غشوماً ، جباراً ، سفاكاً للدماء فإن تلك الشخصية لا تخشى أحد من الرعية ، فإذا أرادت أن تفرض شيئاً فإنها تفرضه دون خوف أو وجل ، فعندما طلب أصحاب المذهب الإسماعيلي أنّ يعلن ويظهر ، للرعية اعتناقه للمذهب إسماعيل ( الباطني ) ، فإنه رفض ذلك خوفاً من الرعية حتى لا تثور عليه . “ وطلبوا منه ( أي الملك المعز ) سب الشيخين ( أبوبكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ــ رضي الله عنهما ) على المنابر ، فقال أخشى السواد الأعظم عليّ وعليكم ، فقالوا يكون ذلك في جِبلة ــ بالقرب من إب ــ ، فقال لا أقدر ... “ . ذلك الحديث الذي دار بين معتنقي المذهب الإسماعيلي من جهة والملك المعز إسماعيل من جهة أخرى يعطينا معلومة أنه لم يدخل في المذهب الإسماعيلي أو الاثنا عشرية ، وإذا أراد بالفعل الدخول فيه لأعلنه على الرعية دون خوف لكونه ملك ينعته المؤرخين وأولهم المؤرخ أبي مخرمة ، بأنه : “ كان سفاكاُ للدماء سريع البطش ، شديد العقوبة “ وتلك الصفات يعميها الغرور ، ولا تبالي بالعواقب الوخيمة التي تصيبه وتصيب حكمه . [c1]مع بني أمية :[/c] ولقد ذكرنا أن الملك المعز أدعى أنه ينتسب إلى بني أمية القرشية ــ على حد قول بامخرمة ــ ، وبنو أمية كما هو معروف عنهم من السُنة وخلافهم الحاد واضح مع العلويين وخصوصاً بعد مقتل الإمام الحسين بن على أبي طالب رضي الله عنهما في كربلاء بالعراق سنة ( 61هـ / 681 م ) ومنذ ذلك التاريخ والشيعة بكافة فرقها وطوائفها في حرب ضروس ضد بني أمية وبينهما أنهار من الدماء ، وكان للشيعة اليد الطولى في إسقاط الخلافة الأموية سنة ( 132هـ / 750م ) ، وقيام الدولة العباسية ، فكيف يكون إسماعيلي المذهب ، وقد نسب نفسه إلى بني أمية . ومن المحتمل ــ كما أشرنا سابقاً ــ أن تهمة دخول الملك المعز إسماعيل في المذهب الإسماعيلي وهو الأيوبي السُني ، قد ألصقها به أعداؤ، وخصومه السياسيين المبتورين منه بصورة خاصة ومن الحكم الأيوبي في اليمن بصورة عامة ، وكما ذكرنا أنّ هناك من يحاول أنّ يعتلي العرش بدلاً منه لأنه يرى أنه أفضل وأكفأ منه مثل الأمير سنقر الأتابك . [c1]الصراع على العرش :[/c]والحقيقة لقد ذكرنا سابقاً ، أنّ الاتهامات التي وجهت إلى الملك المعز إسماعيل بن طغتكين من المحتمل أنّ تكون من خصوم الدولة الأيوبية في اليمن والذين ضاقوا منها ذرعاً بسبب سياسة أمرائها ، وحكامها المتسمة بالقسوة والعنف ، وسفك الدماء ، ومصادرة أموال الناس بالباطل . وذكرنا أيضاً أنّ هناك كانت أيادي خفية في داخل بلاط القصر أو بعبارة أخرى من بعض كبار رجالات الدولة كانت تحيك الدسائس والمكائد و المؤامرات للملك المعز لإقصائه من كرسي السلطنة وعلى رأسهم الوزير الأتابك سنقر الذي كان في خلاف مع الملك المعز إسماعيل مما دفعه إلى الهروب من قبضته خوفاً على حياته , وكان على الأتابك سنقر ، أنّ يعمل بشتى الوسائل على التخلص من الملك المُعز حتى ينقذ حياته من ناحية ويعتلي عرش السلطنة في اليمن من ناحية أخرى وهناك رواية تاريخية ترجح ما ذهبنا إليه بأنّ أصابع الاتهام تشير إلى سنقر الأتابك في تدبير مقتل الملك المعز أو على الأقل إزاحته من سدة الحكم ، فتقول تلك الرواية : “ وكان الأتابك سيف الدين سنقر هارباً من المعز إسماعيل في حصون حجة . . . كان الأمير سنقر راسل الأكراد وصالحهم “ . وكان من البديهي أنّ يكون الأمير سنقر الأتابك ، قد تفاهم مع كبار القادة الأكراد على التخلص من الملك المعز الأيوبي وبالفعل تم القضاء عليه كما سنتحدث عنه بعد قليل بشيء من التفصيل . [c1]ونسجت المؤامرة :[/c]وروى الكبسي أنّ الملك المعز خرج في أحدى الأيام من زبيد راكبا بغلته ، وبمجرد أن خرج من بابها حتى وثب عليه العسكر الأكراد ، فقتلوه ، تلك الدلائل تثبت أنّ قتله كان مدبراً من بعض كبار قادة الأكراد وعلى رأسهم ــ كما ذكرنا ـــ الأتابك سيف الدين سُنقر ، فهل يعقل أنّ يخرج الملك المعز من زبيد دون ثلة من حرسه الخاص ، علماً بأنه كان يدرك تمام الإدراك أنّ حياته معرضة للخطر من قبل الأتابك سنقر . فيخرج معه خادمه فقط الذي قتل معه ، والسؤال الآخر وهو من أخبر الجند الأكراد بخروج الملك المعز ؟ . ومن الطبيعي أنه خبر خروجه من زبيد وصل إلى مسامع قادة الجند الأكراد من داخل قصر الملك المعز نفسه المتربصين به . وأما تفاصيل قتاله مع قاتليه من الجند لا تهمنا بقدر ما تهمنا المؤامرة التي حيكت خيوطها لقتل الملك المعز إسماعيل . ويضيف أبو مخرمة معلومة أخرى عن سبب قتل الجند الأكراد للملك المعز وهي أنه ً : “ . . . منع الجند أرزاقهم وصرفها للمساخر والشعراء فانتدب لقتله الأكراد من عسكره “ . وحول ما قيل أنّ الملك المعز منع أرزاق الجند الأكراد ، فهذا القول يجانب الصواب . فهل يعقل أن يترك الملك المُعز الجند الأكراد الذين يمثلون درعه الواقي ضد المخاطر التي تحيطه في الداخل من ثورات وتمردات القبائل وأيضاً من مناوئيه السياسيين دون أن يصرف لهم الرواتب والأرزاق أو يقربهم إليه ، فيصرون من رجاله المخلصين ؟ . فحاكم صفاته سفك الدماء ، والبطش ، والعنف حرياً به أن يهتم بسلامة حياته من كل خطر يحيق به من ناحية والعمل على تدعيم سلطان نفوذه السياسي من ناحية أخر من خلال استمالة قادة الجند للحفاظ على كرسي عرشه ، وخاصة الأكراد منهم والذين كانوا يمثلون القوة الضاربة للدولة الأيوبية على أرض اليمن . ولكن الذي نستطيع أنّ نجزم به وهو أنه وراء الأسباب الرئيسية في مقتله هو الصراع على العرش .[c1]في سدة الحكم :[/c]ومن أجل أن ينفرد الأتابك سنقر بالسلطان ، كان لا بد من تصفية الملك المعز جسدياً حتى يخلو له الجو السياسي ــ كما قلنا سابقاً ــ ، وبعد مقتل الملك المعز صار بعدها الأتابك سنقر الحاكم الفعلي في اليمن وصاحب الكلمة النافذة فيها . وفي هذا الصدد ، يقول الكبسي : “ ولما قتل المعز أعيدت الخطبة في صنعاء ، وزبيد لبني العباس ونصبوا لمملكة بني أيوب ابن الملك المعز بن طغتكين ، وكان طفلاً في عشر سنين أو نحو ذلك ، ورجع الأتابك سنقر ، وتولى أمور المملكة “ . لفت نظرنا الكبسي عبارته التي تقول “ أنه بعد مقتل الملك المعز ، أعيدت الخطبة للخلافة العباسية في كل من صنعاء ، وزبيد . والحقيقة أن روايته تلك يلفها الغموض والاضطراب الشديدين ، والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل انقطعت الخطبة للخلافة العباسية السُنية في صنعاء ، وزبيد ، في فترة حكم الملك المُعز ؟ . والحقيقة أن الكثير من الأمور الغامضة تلف سيرة الملك المُعز إسماعيل الذي يبدو أنه تعرض لحملة شعواء من الاتهامات الضخمة من قبل المناوئين له بهدف تشويه صورته أمام العامة من الناس ــ كما أشرنا في السابق ـــ . ولقد أسلفنا أنّ الأتابك سنقر فر من الملك المُعز إلى حجة ، بسبب تلك الواقعة التي يرويها الكبسي ، قائلاً : “ وفي هذه السنة ( 598هـ / 1202م ) سولت لإسماعيل بن طغتكين نفسه وادعى الخلافة ، وانتسب إلى بني أمية ، فوردت عليه من مصر والشام كتب أهله ينكرون عليه أشد الإنكار ، فلم يَرعَو ( هكذا ) بل تمادى على ذلك الإصرار ، ولما أنكر عليه الأتابك سنقر ، والأمير يوسف الدقيق ، هم بقتلهما ، ففارقه الأتابك سنقر وأظهر الخلاف عليه ، ومال إليه أكثر الجند “ . ونستخلص من ذلك أنّ الصراع انفجر بين الأتابك سنقر و الملك المُعز في نفس سنة مقتل الأخير بالقرب من زبيد ــ كما أسلفنا ــ . وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن كبار قادة الأكراد و على رأسهم سيف الدين سنقر الأتابك كانوا ضالعين في مقتل الملك المعز إسماعيل بن طغتكين بن أيوب . ومن المحتمل أنّ الأتابك سنقر لكي يزيد من كراهية الرعية للملك المعز إسماعيل , فقد أعاد الخطبة فوق المنابر في صنعاء وزبيد للخلافة العباسية السُنية . في وقت لم يعد الأمر يحتاج إلى إعادة الخطبة للخليفة العباسي في اليمن بعد أنّ ذهب ريحه ، وانطفأ بريقه ، وانكسرت شوكته بسبب تحكم القادة الأتراك في مصيره ، وصار ألعوبة في يديهم .[c1]عدن ومماليك الملك المعز :[/c]وتذكر الرواية التاريخية أنّ الأتابك سنقر “ استولى على عدن في شعبان سنة 598هـ / 1201م “ . وهي نفس السنة الذي قتل فيها الملك المعز . والحقيقة أنّ عبارة ( استولى على عدن ) تجعلنا نستوقف عندها وهي أنّ تلك العبارة تعطينا معلومة هامة وهي أنّ الأتابك سنقر وجد مقاومة في عدن ، ولم يدخلها بسهولة ، ومن المحتمل أنه دخلها على أسنة الحراب ، وأغلب الظن أنّ المقاومة جاءت من مماليك الملك المعز إسماعيل الذين رأوا في تولي الأتابك سنقر الحكم بعد مقتل سيدهم غير شرعي ، وأن تولية أخيه الملك الناصر بن أيوب الصغير السن ما هو في الحقيقة إلا ستار يخفي فيه الأتابك سنقر أطماعه في حكم البلاد. ويبدو أنّ مماليك الملك المُعز ، كانوا يتحينون الفرصة لقتل الأمير سنقر بسبب قتل سيدهم. وبالفعل قتل في ظروف غامضة فبعض الروايات تقول أنه قتل مسموماً ، والبعض الآخر ، يقول إنه قتل بالسيف في داخل قصره ( 607 هـ ـ / 1211م ) . وعلى أية حال ، فقد جلس الأتابك سنقر على كرسي حكم اليمن مدة تسع سنوات . وفي فترة حكمه سيطر على حضرموت . [c1]ملك غير متوج :[/c]والحقيقة أنّ مقتل الملك المعز إسماعيل على يد الأتابك سنقر و مماليكه من الأكراد كانت له تداعيات الخطيرة وعواقب وخيمة على كيان الدولة الأيوبية في اليمن ، وعلى أوضاع اليمن السياسية نفسها ، فقد اضطرب حبل الأمن فيها وعمت الفوضى السياسية من ناحية وتحكم الأمراء ، والقادة الأكراد بشئون الحكم من ناحية ثانية وانفجر صراع خفي بينهم . فقد كان كل أمير من الأتابك ينتظر الفرصة السانحة للانقضاض على الآخر من ناحية ثالثة وأخيرة . فعندما قتل الأتابك سنقر ، في ظروف غامضة ـــ كما أشرنا ــــ. قفز الأتابك غازي بن جبريل على سدة الحكم ، وكانت له اليد الطولى في حكم اليمن . ويقال أن الأتابك غازي قد دس السُم للملك الناصر بسبب أنّ الأخير أراد أنّ ينفرد بالحكم ، وأنّ يمسك بزمام الأمر , ولكن الأمير غازي بن جبريل المعروف بسفك الدماء ، وطمعه في الاستئثار بالحكم ، فقام بتدبير موت الملك الناصر بالسم ، وذلك في شهر محرم سنة 611هـ / 1214م “. وروي عبد الباقي عبد المجيد أنه بعد أنّ تخلص غازي بن جبريل من الملك الناصر بالسم ، صار أبن غازي الحاكم الفعلي في اليمن ، أو بعبارة أخرى صار ملكاُ غير متوج . “ واستقل بالمُلك ، وخطب له ، وضربت السكة باسمه “ . ولكن ابن غازي هذا ، قتل أيضاً : “ . واشتعلت الاضطرابات في كل مكان من اليمن ، بسبب “ ... خلوها من سلطان قاهر بعد موت الملك الناصر أيوب “ . الذي مات مسموماً على يد الأتابك ابن غازي ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . [c1]الدولة الأيوبية الغاربة :[/c]الأوضاع السياسية التي عرضناها قبل قليل تؤكد وتؤصل الفكرة التي قلناها سابقاً وهي أنّ الأتابك سنقر وعدد من القادة العسكريين الأكراد الكبار ، كانوا يخططون لانقلاب على الملك المعز للوصول إلى كرسي الحكم ، فعملوا على تشويه صورته أمام الناس ، وضربوا على الوتر الحساس في نفوسهم وهو أنّ الملك المعز دخل في المذهب الإسماعيلي ( الباطنية ) ، ونسجوا الكثير من الأكاذيب والافتراءات المختلقة والمختلفة حول الملك المعز والذي أسهم أيضا بصورة ما على اهتزاز صورته أمام أعين الناس وخصوصاً في انغماسه في اللهو والملذات ، وترك شئون الحكم للوزراء ــ كما أسلفنا ــ ، فكانت تلك الأسباب مجتمعة هي التي أفقدته كرسي حكم اليمن وأفقدته أيضاً حياته . والحقيقة أنّ الدولة الأيوبية في اليمن التي ثبت دعائمها كل من السلطان توران شاه ، وأخيه من بعده السلطان طغتكين بن أيوب التي حكمت اليمن أربى من خمسين عاماً ( 569 ــ 627هـ / 1173 ـــ 1229م ) ، كانت تجنح إلى المغيب وفي الرمق الأخير، فالأوضاع السياسية في اليمن المتمثلة بالتمردات والقلاقل والإضطرابات الكثيرة التي انفجرت في وجه حكامها من ناحية وانشغال سلاطين الدولة الأيوبية في مصر عن اليمن في قضاياهم الداخلية المتمثلة بالمؤامرات والدسائس التي كانوا يحكونها فيما بينهم من ناحية أخرى كل هذا أدى إلى انسلاخ اليمن عن كيان السلطة المركزية في مصر الأيوبية ، وكان من الطبيعي أن تثير في نفوس الأمراء والقادة الأكراد في اليمن التطلع الكبير إلى الحكم بالطرق غير الشرعية وهي قتل سلاطين بني أيوب كما فعلوا مع الملك المعز أو العزيز ، وأخيه الملك الناصر بن أيوب . ولقد أذاق الأمراء الأيوبيون اليمنيين لباس الخوف , والجوع وباتت حياتهم قطعة من العذاب . وهذا ما أكده القاضي الشماحي بأنه بعد مقتل الملك المعز أو العزيز إسماعيل بن طغتكين على يد الجند الأكراد المتواطئين مع الأتابك سنقر ، فإنه تولى الحكم بعد اختفاءه من مسرح الأحداث التاريخية حاكماً ظالماً مستبداُ وهو سليمان بن سعد الدين بن تقي الدين بن عمر بن شاه بن أيوب “ وكان ظالماً شاذا استمر في الحكم إلى سنة ( 616 هـ ) “ . ولقد قال أحد المؤرخين القدامى في عصر الملك المعز إسماعيل ألأيوبي وذلك بعد مقتله ، إنّ المعز بن طغتكين الأيوبي ستظل سيرته لغز في صفحات التاريخ .[c1]* الهوامش : [/c]بامخرمة ؛ تاريخ ثغر عدن ، الجزء الأول ، الطبعة الثانية 1407هـ / 1986م ، منشورات المدينة ـــ صنعاء ـــ .الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري ؛ عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية ، الطبعة الثانية 2004م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر .الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ المؤرخون اليمنيون في العهد العثماني الأول 1538ــ 1635م ، سنة الطبعة 1971م ، الناشر : الجمعية المصرية للدراسات التاريخية.الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538ــ 1635م ، سنة الطبعة 1969م ، معهد البُحوث والدراسات العربية ـــ جامعة الدول العربية ـــ . العلامة المؤرخ محمد بن إسماعيل الكبسي ، حققه وضبط نصه ، وعلق عليه ( أبو حسان ) خالد أبا زيد الأذرعي ؛ اللطائف السَنية في أخبار المماليك اليمنية ، الطبعة الأولى 1426هـ / 2005م ، الناشر : مكتبة الجيل الجديد ــ اليمن ـــ صنعاء ـــ . عبد الله بن عبد الوهاب المجاهد الشماحي ؛ اليمن الإنسان و الحضارة ، الطبعة الثالثة 1406هـ / 1985م . عبد الباقي عبد المجيد ، تحقيق : مصطفى حجازي ؛ تاريخ اليمن ، دار العودة ـ بيروت ــ دار الكلمة ــ صنعاء .
|
تاريخ
الملك المعز الأيوبي في الميزان
أخبار متعلقة