كانت لاتزال طفلة في بداية نموها كزهرة يانعة تشرع أوراقها بالتفتح وتكسوها الالوان الفاتحة التي ترمز لجمال هذه الحياة ، تتفتق عن أمل ينبض بمستقبل باهرلحياة أمنة وسلام دائم ، كانت طفلة تعيش أيامها الاولى وتتطلع الى معرفة واكتشاف هذا العالم الذي وجدت نفسها فيه فعرفت أنه من حقها أن تعيش على هذه الارض وأن تتمتع بخيراتها وبكل ما وهبه الله لها لانها انسان يتميز بالعقل والتفكير لتمضي في طريق حياة هانئة سعيدة يملؤها الخير ويعمها السلام.هكذا كانت «بيسان» تحلم أو هكذا رأت الحياة وهكذا فهمتها فهي تعيش في أسرة متواضعة طيبة، كانت واحدة من بين ثلاث من أخواتها لا تعرف من الحياة الا كل ما هو جميل ورائع ..عائلة وأخوات واصدقاء وأب حنون يحب بناته كثيرا ويعطف عليهن ، هكذا كانت تعيش بيسان هكذا كانت تحلم هكذا كانت تمضي في طريقها ، لكن كل هذه الاحلام والتطلعات ارتطمت بصخرة الحروب العاتية ، فمنذ الربيع السابع من عمرها دخلت في دوامة الحرب التي لا ترحم فعاشت ظروفا قاسية لم تكن تدرك هي أو أسرتها أضرارها النفسية والجسدية في حينها أول حرب صادفتها في الثالث عشر من يناير 1986م ، تعرضت لألم نفسي وأنهارت قواها ولم تنقذها براءة الطفولة من الوقوع في شرك المرض النفسي الناتج عن الحرب. ولدت لديها تلك الحرب عقدة الخوف والقلق من كل ما مضى ومن كل ما هو أت بعد انتهاء احرب الإخوة الأعداء التي استمرت أياما معدودة . وحين عادت الحياة الى طبيعتها وفتحت المدارس أبوابها لم ترغب بيسان بالذهاب الى المدرسة ، بل لم تكن تقوى حتى على الخروج من المنزل للعب مع أترابها ، لانها كانت تستحضر لحظات الحرب الدامية المخيفة وأصوات المدافع والرصاص التي بقي بعض من مشاهدها عالقا في ذاكرتها الصغيرة، تعبت والدتها من مداواتها ومحاولة اعادة الثقة اليها بأن كل شئ عاد الى طبيعته وأن الحرب انتهت ولن تعود الى الأبد .وبحب وحنان والدتها وعائلتها وأصدقائها والدور الذي لعبه الطبيب النفسي في حياتها عادت بيسان الى مدرستها بعد غياب وضياع عامين من عمرها ومن سني دراستها . واصلت بيسان دراستها بحماس وبنجاح باهروتفوقت ، و بمرور الأيام أستعادت الكثير من مشاعرها الجميلة نحو هذه الحياة التي ألفتها جميلة في بداياتها الاولى فيها.كبرالصغار وكبرت بيسان وهي تتشبع بكل القيم الحياتية الجميلة بحب الحياة ، الدراسة والعمل ، الى أن صادفتها الحرب الثانية في عام 1994 التي أعادت إليها بعض المتاعب النفسية القديمة ، فهي هذه المرة لم تعد طفلة ، وهكذا كبرت الصغيرة وهي تنتقل من حرب الى حرب .كانت بيسان بعد هذه الحروب التي مرت بها في محيطها تتأثر بكل حرب يتعرض لها الاخرون في أوطانهم فقد تأثرت كثيرا بانتفاضة فلسطين 2001 وأصاب مشهد موت الطفل محمد الذرة قلبها وقلب كل انسان بالحرقة والحزن والاسى. كرهت بيسان مشاهدة الحروب والقتلى في كل مكان حتى أنها أبت أن تشاهد وتتابع أثار الحرب في العراق عام2003 وأغرقت نفسها في العمل ليل نهار لتهرب من مأساتها العربية . كانت تعيش هي وأخواتها وزملاؤها في كل حرب يمر بها وطنها العربي أو أي بلد في العالم ظروفا قاسية وألاما نفسية وتساؤلات محيرة .. لماذا هذه الحروب ؟ ولماذا هذه الكوارث الناتجة عنها ؟ لماذا يموت الانسان بيد الانسان وقد وجد ليعيش ؟ ، لماذا كل هذا القتل والدمار ؟ !!لا يخفى على أحد أن للحروب أثارا نفسية وجسدية على الانسان ، كما لها أثار ضارة جدا ببيئته الاجتماعية والطبيعية وبالارض عموما . تدور رحى الحرب في كل مكان وكل زمان حاصدة معها الأرواح و الأنفس البريئة وحتى الداخلين بين كفيها من المدنيين والعسكريين ، إلا أن هذه الحروب دخلت في عصرنا الراهن مرحلة جديدة من مراحلها المتتابعة والمتلاحقة ، حيث كانت هذه الحروب قديما لا تتعدى استخدام الأيدي وفي مرحلة لاحقة من تطور العقل البشري استخدمت المنجنيقات وكلما تقدم الإنسان في العلم كلما وجهه نحو اختراع أدوات حرب جديدة متطورة فتاكة ، غير عابئ بالإضرار والدمار الذي قد ينجم عن هذه التقنيات الحربية المتنامية .وبالطبع لا يخفى على أحد أن للحروب أثار نفسية وجسدية على الإنسان، كما لها أثار ضارة جدا على بيئته وعلى الأرض بشكل عام . فكما حدث لبيسان من صدمات نفسية وهزات كيانية أتعبتها وخدشت مشاعرها الإنسانية الصادقة والحالمة نحو الحياة والجمال الكامن بين ثناياها ، حدث أيضا لآخرين من أمثالها ممن يملكون مشاعر مرهفة وشفافة لا يقوون على مجابهة هزاتها العنيفة والمدمرة فتولدت لديهم عقد نفسية وأثار سلبية تنعكس على حياتهم المستقبلية .. فحين يكبرون يستحوذهم الاضطراب ويصابون بفقد التوازن النفسي فيظلون يتخبطون ويتعثرون في منعرجات الحياة باحثين عن ميناء سلام واستقرار نفسي، ناهيك عن هؤلاء الذين تفقدهم الحرب أجزاء من أجسادهم وتسبب لهم الإعاقة الدائمة والأوبئة الخطيرة كما حدث في هيروشيما ونجزاكي من جراء انفجار القنبلة النووية التي سببت لهم تلوثا بيئيا أحدث لهم أوبئة وأمراضا مزمنة بل وصل الأمر بأنها أحدثت تغيرات في التركيبات الجينية للأجيال الجديدة .. وهكذا لا يقف تأثيرالحرب على الإنسان بل على البيئة أيضا ً. هذه هي الحروب ستظل دائما مؤثرة ومدمرة ، فمتى يدرك الإنسان أهمية وجوده وضرورة الحفاظ على نفسه وعلى أرضه ويتوقف عن حصد هذه الأرواح والعبث بالحياة التي تعد هبة من الله ينبغي الحفاظ عليها ؟ .
أخبار متعلقة