قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3. فإن تقوى الله سبب تفريج الكُرَب والخَلاص من المضائق، وملاحظةُ المسلم ذلك ويقينُه بأن الله يدفع عنه ما يخطر بباله من الخواطر الشيطانية التي تثبطه عن التقوى يحقق وعد الله إياه بأن يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب. فكل مَن اتقى الله تعالى، ولازم مرضاة الله في جميع أحواله، فإن الله يثيبه في الدنيا والآخرة. ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجًا ومخرجًا من كل شدة ومشقة، وكما أن مَن اتقى الله جعل له فرجًا ومخرجًا، فمَن لم يتق الله، وقع في الشدائد والآصار والأغلال، التي لا يقدر على التخلص منها والخروج من تبعتها. (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي: يسوق الله الرزق للمتقي، من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به. [التحرير والتنوير - تيسير الكريم الرحمن. وفي القرآن مواضع متكررة فيها هذا الارتباط بين صلاح القلوب واستقامتها على هدى الله، وبين تيسير الأرزاق وعموم الرخاء.. جاء في موضع: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ . وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة:65-66] وجـاء في موضـع: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود:3] وهذه القاعدة التي يقررها القرآن في مواضع متفرقة، قاعدة صحيحة تقوم على أسبابها من وعد الله، ومن سنة الحياة؛ كما أنّ الواقع العملي يشهد بتحققها على مدار القرون. قال أبو سعيد الخدري: ومَن يبرأ مِن حوله وقوته بالرجوع إلى الله؛ يجعل له مخرجا مما كلفه بالمعونة له. وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم، وقال أبو ذر: قال النبي e: “إني لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم”، وتلا: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) فما زال يكررها ويعيدها. وقال ابن عباس ب: مخرجًا من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة. قال الزجاج: إذا اتقى وآثر الحلال والتصبر على أهله؛ فتح الله عليه إنْ كان ذا ضِيقة، ورزقه مِن حيث لا يحتسب. [الجامع لأحكام القرآن - الظلال] وقد قيل لأحد الصالحين: إن الأسعار قد ارتفعت، فقال: أنزلوها بالتقوى؛ في إشارة منه لقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف:96] والله جل وعلا يضمن للخليقة جمعاء رزقها فضلا منه لا وجوبا عليه، ووعدا منه حقا، فهو لم يخلق الخلق ليضيعهم: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود:6. وعن عبد الله بن مسعود t عن النبي e قال: “إن رُوحَ القُدُسِ نَفثَ في رُوعِي أنَّ نفسًا لن تموتَ حتى تستكملَ رزقَها، ألا فاتقوا اللهَ وأجمِلوا في الطلبِ، ولا يحملنكم استبطاءُ الرزقِ أنْ تطلبوه بمعاصي اللهِ؛ فإنه لا يُدرَكُ ما عندَ اللهِ إلا بطاعتِهِ”. [أخرجه الحاكم وابن حبان، وحسنه الألباني.فإن العبد إذا أيقن أن الرزق بيد الله، وأنه آتيه لا محالة تفرغ لأداء المهمة التي خلقه الله من أجلها؛ وهي العبادة بمفهومها الشامل. وحينئذ يمكنه أن يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم؛ فلا يخشى فصلا من عمل، أو طردا من وظيفة، أو حرمانا من تجارة؛ فرزقه عند الله لا محالة. وهو عندما يبذل سببا للحصول على الرزق؛ يبذله وهو عزيز النفس رافع الرأس، فليس لأحد منة عليه، بل المنة والفضل لله جميعا. والله جل وعلا عندما قسم الأرزاق جعل بينها تفاوتا: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) [الإسراء:30. ولو أعطى الله الخلق فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِير) [الشورى:27. إنه سبحانه وتعالى يرزق عباده بالقدر الذي فيه صلاحهم، فيُغني من لا يُصلحه إلا الغنى، ويَقْدِر على مَن لا يُصلحه إلا الفقـر؛ بحكمتـه وعدله جـل وعلا: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الشورى:12. والرزق مكتوب للعبد وهو في بطن أمه: “إنَّ أحدَكم يُجمعُ خلقُه في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مُضغةً مثلَ ذلك، ثم يبعثُ اللهُ إليهِ مَلَكًا، ويُؤمَرُ بأربعِ كلماتٍ، ويُقالُ له: اكتبْ عملَه ورزقَه وأجلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ، ثمُ يُنفخُ فيه الروحُ”. [رواه البخاري ومسلم. فوالله الذي لا إله إلا هو، لو اجتمعت الدنيا كلها، بقضِّها وقضيضها، وجيوشها ودولها، وعسكرها وملوكها وأرادوا أن يمنعوا رزقا قدره الله لك، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو أرادوا أن يسقوك شربة ماء، لم يكتبْها الله لك، فإنك ستموت قبل هذه الشربة. ومن أسباب الرزق: الاستغفار والتوبة: نعم.. التوبة والاستغفار، قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارا) [نوح:10-12.، قال القرطبي: “هذه الآية دليل على أن الاستغفار يُستنزل به الرزق والأمطار”، وقال ابن كثير: “أي إذا تبتم واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم”.جاء رجل إلى الحسن فشكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وجاء آخر فشكا الفقر، فقال له: استغفر الله، وجاء آخر فقال: ادع الله أن يرزقني ولدا، فقال: استغفر الله، فقال أصحاب الحسن: سألوك مسائل شتى وأجبتهم بجواب واحد وهو الاستغفار؟ فقال رحمه الله: ما قلت من عندي شيئا، إن الله يقول: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً).وقال تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود: 3. [هذه الآية الكريمة تدل على أن الاستغفار والتوبة إلى الله تعالى من الذنوب سبب لأن يمتع الله مَن فعل ذلك متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى؛ لأنه رتب ذلك على الاستغفار والتوبة ترتيب الجزاء على شرطه.والظاهر أن المراد بالمتاع الحسن سعة الرزق، ورغد العيش، والعافية في الدنيا، وأن المراد بالأجل المسمى: الموت.. [أضواء البيان. [وقد ابتلينا في العصر الحديث بالغفلة والشك، وذهبنا نظن أنَّ هذا الكلام ومثله إنما أريد به مجرد الترغيب والترهيب، لا أنه حقيقة واقعة، وقانون صادق.. ابتلينا بهذا فخسرنا كل شيء.. وقد كان سلفنـا الصالح يفطنون إليها، ويوقنون بخيرها، ويستفتحون أبواب السماء بسرها؛ فيسعفهم الله بما يريدون.. رُوِي أنّ السماء أمسكت، والأرض أجدبت على عهد عمر بن الخطاب؛ فخرج مع الناس ليستسقي لهم، فاستغفر عمر ربه هنيهة، ثم عاد بالناس! فقالوا له: ما نراك استسقيت لنا؟! قال: لقد طلبت لكم الغيث بمجاديح(1) السماء التي يُستنزَل بها المطر][تذكرة الدعاة] ¶ ذكر ابن قُدامة في كتاب “التوابين” أنه: لحق بني إسرائيل قحطٌ على عهد موسى ؛، فاجتمع الناس إليه فقالوا: يا كليم الله! ادْعُ لنا ربك أنْ يسقينا الغيث. فقام معهم، وخرجوا إلى الصحراء وهم سبعون ألفًا أو يزيدون. فقال موسى ؛: إلهي! اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرضَّع، والبهائم الرُّتَّع، والمشايخ الرُّكَّع.. فما زادت السماء إلا تقشعًا، والشمس إلا حرارة.. فقال موسى: إلهي! إن كان قد خَلَق جاهي عندك؛ فبجاه النبي الأمي محمد الذي تبعثه في آخر الزمان.. فأوحى الله إليه: ما خَلَقَ جاهك عندي؛ وإنك عندي وجيه، ولكن فيكم عبد يبارزني منذ أربعين سنة بالمعاصي؛ فنادِ في الناس حتى يخرج مِن بين أظهركم؛ فبه منعتُكم..! فقال موسى: إلهي! وسيدي! أنا عبد ضعيف، وصوتي ضعيف؛ فأين يبلغ؛ وهم سبعون ألفًا أو يزيدون؟ فأوحى الله إليه: منك النداء، ومني البلاغ.. فقام مناديًا وقال: يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله منذ أربعين سنة! اخرج مِن بين أظهرنا؛ فبك مُنعنا المطر..! فقام العبد العاصي، فنظر ذات اليمين وذات الشمال، فلم يَـرَ أحدًا خرج؛ فعلم أنه المطلوب.. فقال في نفسه: إنْ أنا خرجتُ مِن بين هذا الخلق افتضحتُ على رءوس بني إسرائيل.. وإنْ قعدتُ معهم منعوا لأجلي! فأدخل رأسه في ثيابه نادمًا على فعاله، وقال: إلهي! وسيدي! عصيتُك أربعين سنة وأمهلتَني، وقد أتيتُك طائعًا؛ فاقبلني.. فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القِرَب.. فقال موسى: إلهي! وسيدي! بماذا سقيتَنا، وما خرج مِن بين أظهرنا أحد؟! فقال: يا موسى! سقيتُكم بالذي به مَنعتُكم! فقال موسى: إلهي! أرني هذا العبد الطائع. فقال: يا موسى! إني لم أفضحه وهو يعصيني، أأفضحه وهو يطيعني؟! ومن أسباب الرزق ومفاتحه، التوكل على الله، الأحد الفرد الصمد، وفي الحديث قال رسول الله e: “لو أنكم كنتم تَوَكَّلون على اللهِ حقَّ توكلِه لرُزِقتُكم كما يُرزَقُ الطيرُ، تَغدو خِماصًا وتَروحُ بِطانًا”. [رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني] وقال الله تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْرا) [الطلاق:3]. والمراد بالتوكل اعتقاد ما دلت عليه هذه الآية: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود: 6]، مع الأخذ بالأسباب. فإن التوكل عليه سبحانه مفتاح لكل خير. مما يُستجلب به الرزق، صلة الرحم، قال رسول الله e: “مَن أحبَّ أنْ يُبسطَ له في رزقِه، ويُنْسَأَ له في أثرِه، فلْيَصِلْ رَحِمَه” [رواه البخاري]. وروى الطبراني من حديث أبي بكرة، عن رسول الله e قال: “إنَّ أعجلَ الطاعةِ ثواباً لَصِلَةُ الرحمِ، حتى إنَّ أهلَ البيتِ ليكونوا فَجَرةً، فتنمو أموالُهم، ويكثرُ عددُهم، إذا تواصلوا”.ومن أسباب الرزق الإنفاق في سبيل الله، قال تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39]. وروى مسلم في صحيحه عن النبي e قال: “يقول الله تعالى: يا ابن آدم أنفِقْ أُنفِقْ عليك”. الله أكبر! ما أعظمه من ضمان بالرزق؛ أنفقْ أُنفقُ عليك.من أسباب الرزق الإحسان إلى الضعفاء والفقراء، وبذل العون لهم، فهذا سبب في زيادة الرزق وهو أحد مفاتيحه، قال رسـول الله: “هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم”. [رواه البخاري]. فمن رغب في رزق الله له، فلا ينسَ الضعفاء والمساكين، فإنما بهم يُرزق، ولهذا كان يقول: “ابغوني في ضعفائكم فإنما تُرزقون وتُنصرون بضعفائكم” [رواه النسائي وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني]. ابغوني: تقربوا إليَّ بالتقرب إليهم وتفقد حالهم، وحفظ حقوقهم، والإحسان إليهم قولا وفعلا واستنصارا.
|
رمضانيات
التقوى من مفاتيح الرزق
أخبار متعلقة