محمد زكريا :عدن ثغر اليمن المحروس المطل على البحر العربي ومفتاح جنوب البحر الأحمر ( مجمع الرفاق ، وموضع سفر الآفاق) خشيت الإمبراطورية الرومانية من منافستها في تجارتها الشرقية قبل دخولها إلى البحر الأحمر . فقرر قيصر روما تدمير مينائها بعد الحملة الرومانية على اليمن سنة ( 24ق . م ) . ولقد أجمعت كتب التاريخ أنّ عدن كانت أقدم وأشهر الأسواق في جزيرة العرب تجمعت فيها ألوان مختلفة ومتنوعة من البضائع والسلع القادمة من شتى بقاع العالم وعلى وجه التحديد من الهند ، والسند ( باكستان حالياً ) ، والصين ، والشرق الأقصى ومن سواحل شرق أفريقيا وعدد من البلدان المطلة على البحر الأبيض المتوسط حيث كانت تحملها السفن المصرية من القلزم ( السويس ) وتتجه بها إلى عدن ولقد قطنها الكثير من الأجناس المختلفة من فارس ، وبلاد الرافدين ، ومصر ، والحبشة ، والمغرب ، والشام . [c1]ابن بطوطة في عدن :[/c]وهذا ما أكده الرحال المسلم ابن بطوطة إلى زار عدن منذ ما يربو عن خمسمائة عام في عهد السلطان الملك المجاهد علي بن المؤيد ألرسولي المتوفي سنة ( 764هـ / 1363م ) ، وبعد أنّ يصفها بأنها “ مرسى أهل الهند ، تأتي إليها المراكب العظيمة “ من مناطق مختلفة من الهند مثل كبايت ، وتانه ، وكولم ، وقالقوط وغيرها ، ويقول : “ وتجار الهند ساكنون بها ، وتجار مصر أيضاً “ . والحقيقة أنّ تلك الأجناس المختلفة التي سكنت عدن بسبب ازدهار نشاط ميناءها التجاري وخصوصاً في الرياح الموسمية التي كانت تتحرك فيها السفن أو قل إذا شئت قوافل السفن المتجهة صوب الهند . على أية حال اندمجت وانصهرت الأجناس المختلفة بنسيج أهل عدن الاجتماعي . مما دفع ببعض التجار الأثرياء المصريين ـــ والذين كانوا يمثلون جاليات كبيرة فيها ـ أنّ يبني له داراً فخماً وضخماً بجانب جبل حقات أي بالقرب من الجبل الأخضر والمعروف حالياً بجبل صيرة . ولقد وصفه المؤرخون المعاصرون بأنه بناء غاية في الروعة والأبهة . ولقد سكنه العديد من الشخصيات الهامة في عهد الدولة الأيوبية ، والطاهرية “ وتصف المصادر المتأخرة روعة هذه الدار ، وحسن بنائها ، فقد كانت دار الإمارة في عدن يقيم فيها حكامها ، وينزل بها ملوك اليمن إذا زاروها “ . “ وقد أفادت المصادر الطاهرية أنّ الأمير مرجان الظافري ـ أمير عدن المتوفي سنة ( 927هـ / 1521م ) ـ أسكن الشيخ عبد الملك بن محمد الطاهري أحد بيوت دار السعادة العليا “ . [c1]فئات عدن الاجتماعية :[/c]ويذكر ابن بطوطة في زيارته إلى عدن مسألة اجتماعية لم يتناولها أحد من الرحالة المسلمين القدامى من قبل وهي وصفه للفئات الاجتماعية المتنوعة في عدن وصفاً دقيقاً في تلك الفترة التاريخية ، فيقول : “ وأهل عدن ما بين تجار ، وحمالين ، وصيادين للسمك . وللتجار منهم أموال عريضة ،وربما يكون لأحدهم المركب العظيم بجميع ما فيه لا يشاركه فيه غيره لسعة ما بين يديه من الأموال ، ولهم في ذلك تفاخر ومباهاة “ . ويلفت نظرنا أنّ تلك المشارب الاجتماعية المتنوعة التي ذكرها ابن بطوطة لا تنبع إلا في بيئة يعمل أهلها في البحر كمدينة عدن صاحبة الميناء المشهور . [c1]عدن والحياة الثقافية :[/c] والحقيقة أنّ عدن عبر تاريخها الطويل مدينة مفتوحة لكونها ميناء تستقبل البضائع والسلع من شتى بقاع العالم ، كما أنها تستقبل أيضاً ألواناً من الأجناس المختلفة والمتنوعة الأصفر ، والأبيض ، والأحمر , ومن الطبيعي أنّ تلك الأجناس المتنوعة تحمل معها عادات وتقاليد مسقط رأسها . وهذا يجرنا كذلك أنّ الحياة الثقافية في عدن تنوعت بتنوع حياة الأجناس القادمة من مختلف بلدان العالم فمدينة عدن لم تكن مزدهرة فحسب بالحياة التجارية بل كانت تربتها الثقافية خصبة من جراء التيارات الثقافية المتباينة التي هبت عليها من العديد من مناطق العالم . فالسفن التي كانت تحمل على متنها السلع والبضائع القادمة من شتى بقاع العالم ، كانت أيضاً تحمل على ظهرها ألواناً ثقافية متنوعة . ونستدل من هذا أنّ عدن مثلما كانت مزدهرة بالحياة التجارية من جراء نشاط مينائها الهام الذي يمثل همزة وصل بين الشرق ( الهند ، والشرق الأقصى ) والغرب ( مصر ) . كانت كذلك نشيطة بالحياة الفكرية . وهذا الأمر يتطلب من الباحثين والمختصين بتاريخ عدن الثقافي دراسة ذلك الجانب الهام من حياة عدن الاجتماعي دراسة واسعة وعميقة في ضوء منهج البحث التاريخي الأكاديمي .[c1]عدن والدولة الرسولية :[/c]وعلى أية حال ، كانت عدن تموج بالحركة والنشاط التجاري الكبيرين بالرغم من أنّ الدولة الرسولية . كانت تعاني الكثير من المشاكل السياسية الصعبة وخصوصاً في عهد ملوكها الأواخر مثل السلطان الملك المجاهد علي بن المؤيد الذي انشغل عن إدارة شئون حكم البلاد والعباد , وتفرغ لمواجهة الثورات والفتن والقلاقل التي أطلت بوجهها في عهده التي كانت تهدد كرسي حكمه . ويرسم مؤرخنا الكبير القاضي إسماعيل بن علي الأكوع صورة مأساوية لحياة ذلك الملك ، قائلاً : “ وهكذا ظلت حياة السلطان المجاهد الحافلة بالصعوبات والتحديات لحكمه حتى من أولاده وأقرب الناس إليه ، وصبر وصابر وجالد محتملاً ذلك حتى توفى بدار الكوكب في عدن “ . وتستوقفنا عبارة مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع بأن السلطان الملك المجاهد علي بن المؤيد توفى في دار الكوكب في عدن . ومن المحتمل أنّ السلطان المجاهد ، قد ضاق ذرعاً بالفتن والثورات التي اندلعت في مقر إمارته في تعز وخصوصاً من أقرب الناس إليه وهم أبنائه ، أو ربما يكون المجاهد فقد السيطرة على تعز فآثر الانسحاب إلى عدن ليكون أكثر أمناً نظراً لطبيعة تضاريسها الصعبة التي لا يمكن أنّ يخترقها أعداؤه . ويلفت نظرنا أيضاً أنّ المجاهد توفى في دار أو في قصر الكوكب . والحقيقة لا نعلم عن تلك الدار أو القصر عنه أية معلومة أو معلومات تقودنا إليه حول من بناه ؟ ، ومتى تم بناؤه ؟ وأين يقع موقعه ؟ . فالمراجع التاريخية الرسولية لم تشير إليه من قريب أو بعيد . وأغلب الظن أنّ دار الكوكب . كانت دار الإمارة الرسمي للسلطان الملك المجاهد في عدن ، ومن المرجح أنّ تكون أيضاً دار الإمارة لسلاطين وملوك الدولة الرسولية بصورة عامة . [c1]عدن والصراع السياسي :[/c]وهناك سؤال يطرح نفسه وهو هل كانت عدن في منأى عن المشاكل السياسية التي كانت تسري في جسد الدولة الرسولية في أواخر حكمها . وهل ألقت تلك القلاقل ، والاضطرابات السياسية بظلها الثقيل على حركة مينائها التجاري ؟ . والحقيقة أن المصادر التراثية تشير أنّ عدن كانت جزء من نسيج الحياة السياسية في اليمن ، فإذا اضطرب حبل السياسة والأمن اضطربت أحول عدن الاقتصادية والتجارية أي كانت له عواقبها السلبية والوخيمة على نشاط وحركة الميناء ، وعلى سبيل المثال ، حدث ذلك في عهد السلطان الملك المعز إسماعيل الأيوبي المقتول سنة ( 598هـ / 1201م ) . وحدث كذلك عندما لقي السلطان عامر بن عبد الوهاب مصرعه على يد المماليك بالقرب من صنعاء سنة ( 923هـ / 1517م ) الذي امتد حكمه في اليمن قرابة 29عاماً .. وكان مهتم اهتماماً كبيراً بميناء عدن . وكان يشرف على نفسه على سير القوافل البحرية المتجه نحو الهند وذلك في أثناء الرياح الموسمية. وبعد اختفائه عن مسرح الحياة السياسية بمقتله ، اضطربت عدن اضطراباً شديداً حيث توقفت عجلة الحركة التجارية فيها فضلاً عن ذلك كان الغزاة البرتغاليون الذين نزلوا إلى سواحل اليمن في القرن العاشر الهجري / القرن السادس عشر ، قد حاصروا ومنعوا عنها السفن للوصول إليها بهدف احتكار تجارة التوابل وبضائع الشرق وذلك بعد اكتشافهم الطريق المباشر الذي يقودهم إلى الهند عبر رأس الرجاء الصالح كل تلك العوامل أثرت تأثيراً اقتصادياً واجتماعياً خطيراً على عدن وأهلها . وقبل ذلك تعرضت الحياة التجارية في ميناء عدن إلى الكساد الاقتصادي في عهد أواخر الحكام الرسوليين وعلى وجه التحديد في عهد السلطان الظاهر يحيى بن إسماعيل الذي جلس على كرسي الحكم بعد وفاة أعظم سلاطين الدولة الرسولية الملك الناصر . ولقد شهدت عدن تدهور وضعف اقتصادي كبيرين في عهد السلطان الظاهر المتوفي سنة ( 842 هـ / 1439م ) . ولقد قامت البعثة الصينية التجارية بزيارة عدن في عهده ولكنها لم تمكث طويلاً بسبب الكساد التجاري الذي حل بميناء عدن ، فتوجهت السفن الصينية التجارية إلى مكة المكرمة . ونستخلص من ذلك أنّ انتعاش الحياة التجارية في ميناء عدن مرتبط أشد الارتباط بالأمن والاستقرار السياسي في اليمن بصورة عامة . [c1]طبائع أهل عدن :[/c]ونعود مرة أخرى إلى الرحال ابن بطوطة الذي زار عدن منذ ما يربو عن خمسمائة عام ـــ كما أسلفنا ـــ . فقد رسم صورة مشرقة ومضيئة عن صفات ، وسلوك ، وأخلاق أهل عدن التي تشعر أنهم كانوا مجتمعاً يسوده الرحمة ، والمودة ، والتكافل الاجتماعي ، فيصف طبائعهم ، قائلاً : “ فهم أهل دين وتواضع ، وصلاح ومكارم أخلاق ، يحسنون إلى الغريب ويؤثرون الفقير ويعطون حق الله من الزكاة على ما يجب “ . ويضيف ابن بطوطة ، قائلاً : “ ولقيت بهذه المدينة ( عدن ) قاضيها الصالح سالم بن عبد الله الهندي ، وكان والده من العبيد الحمالين . واشتغل ابنه بالعلم ، فرأس وساد . وهو من خيار القضاة وفضلائهم “ . [c1]عدن مدينة العلم والعلماء :[/c] ونستدل من وصف ابن بطوطة أنّ أهل عدن أناس مسالمين ، لينوا العريكة ، يكرمون الضيف ، وأنّ حياتهم المادية حياة جيدة تدل على إنفاقهم في وجوه الخير البر والإحسان ، وأداء الزكاة الواجبة عليهم من ناحية أنّ الحياة الاجتماعية في عدن يسودها الإخاء والمحبة ، و أهلها تنبذ العصبية العمياء فهي لا تمنع ابن الحمال أو العبد عن الدراسة وأنّ يتبوأ أعلى المناصب الهامة في المجتمع كالقضاء من ناحية أخرى . فهي لا تفرق بين عربي وأعجمي المهم أنّ يكون ذا صلاح ودين وعلم بصرف النظر عن جنسيته . فالضيف الذي مكث عنده ابن بطوطة كان قاضياً هندياً أو تعود جذور نسبه إلى الهند ولكنه تولى أرقى الوظائف في عدن وهي وظيفة القاضي . والحقيقة من يطلع على كتاب ـــ تاريخ ثغر عدن ــ للمؤرخ بامخرمة المتوفي سنة ( 947 هـ / 1540م ) ، سيلاحظ الكم الهائل من العلماء ، والفقهاء ، والقضاة الذين ضربوا بسهم وافر في العلوم الشرعية المتنوعة . ولقد تتلمذ الكثير من الطلاب في مختلف فروع العلوم الدينية على أيديهم , وباتوا حملة العلم والمعرفة في اليمن والبعض منهم طارت شهرته الآفاق . ويذكر بامخرمة أنّ الإمام أحمد بن حنبلة المتوفى سنة ( 241 هـ / 856م ) قدم من بغداد إلى عدن حيث “ بلغه عن إبراهيم بن ( الحكم بن ) أبان صاحب عدن علمُ ُ ، وفضل فقصده . . . فلم يجده كما قيل ، فقال : في سبيل الله الدريهماتُ التي أنفقناها في السفر إلى إبراهيم “ . وهذا دليل أنّ عدن ، كانت في تاريخها الإسلامي أشعاع حضاري يأتي إليها جهابذة العلماء ، ونوابغ الفقهاء لينهلوا العلم من ينابيعها . فلم تكن عدن ميناء مشهور فحسب بل كانت مدينة مشهورة ومعروفة بالعلم والعلماء يؤمها أئمة العلماء في العالم الإسلامي أمثال الإمام أحمد بن حنبل .[c1]عدن والطوائف الصوفية :[/c] ويلفت نظرنا كذلك في كتاب بامخرمة إلى انتشار مشايخ الصوفية المشهورين في كل مكان من عدن . والجدير بالذكر أنّ الصوفية في عصر بامخرمة كانت هي الثقافة السائدة بين المجتمع . وكان لأقطاب الصوفية أو بالأحرى للطوائف الصوفية المكانة المرموقة في المجتمع . وكان الأشمل الأعم من الناس أتباع ومريدي تلك الطوائف الصوفية . وكان العديد من مشايخ الصوفية يرحلون من تهامة إلى عدن وعلى وجه التحديد من مدينة زبيد ، وبيت الفقيه وغيرهما من المدن التهامية التي كانت مزدهرة بهم . فكان يطيب الكثير منهم المقام في مدينة عدن ، فيستقروا بها ، ويبنوا لأنفسهم مسجداً خاصاً بهم يلقوا فيها حلقات الذكر ، وعلوم الدين مثل مسجد حسين الأهدل في القابع في عدن القديمة قرابة أكثر من خمسمائة عام . وتذكر المصادر التراثية بأن الشيخ حسين بن الأهدل من قرية ( أبيات حسين ) الواقعة في تهامة . وكان الإسم القديم لحي الحسين هو حي الشاذلي بسبب الطريقة الشاذلية الصوفية التي كانت منتشرة حينذاك في ذلك الحي بصفة خاصة وعدن بصفة عامة. وكانت إلى جانب الطريقة الصوفية الشاذلية التي تنتسب إلى القطب الصوفي الكبير أبي الحسن الشاذلي المتوفي سنة ( 656هـ / 1258م ) . كانت هناك طوائف صوفية أخرى على سبيل المثل الطريقة القادرية المنتسبة إلى الصوفي الكبير الشيخ عبد القادر بن موسى الجيلاني المتوفى سنة ( 561 هـ / 1166م ) . والطريقة الرفاعية المنتسبة إلى الشيخ الكبير أحمد الرفاعي المتوفى سنة ( 578 هـ / 1183م ) وغيرهم . وكان لشيوخ الصوفية أتباع ومريدين كثيرين يتحلقون حول شيوخهم وينافحون عنهم ضد الطرق الصوفية الأخرى . وكان لكل من تلك الطرق الصوفية ( بنادرها ) و شعارها الخاصة بهم . وكانت في عدن القديمة طرائق صوفية أخرى محلية ولكنها لم تستطع أنّ تزاحم تلك الطوائف الصوفية المشهورة مثل الشاذلية أو القادرية ، فاضطرت الانسحاب إلى مكان آخر يضمن لها الشهرة والانتشار مثل الطريقة الأحمدية في الشيخ عثمان والذي مازال مسجدها المتواضع يطل على شارعها العام حتى الآن . [c1]عدن والعمارة الصوفية :[/c]ومن القضايا المرتبطة بتاريخ عدن الاجتماعي هي المنشآت الصوفية التي تعكس فن العمارة الصوفية أو المنشآت الصوفية الدينية في المدينة وتتمثل تلك العمارة بالمساجد المتواضعة المربعة الشكل الخالية من الزخرف . ويلفت نظرنا في الأعم الأغلب أنّ محاريب تلك المساجد الصوفية تكون على شكل حنية أو تجويف بسيط منحوت في الجدار . وتطفو على سقفها قبة أو عدد من القباب فضلاً أنّ المسجد كله مغطى أو مسقوف , وتزين حافة السقف عرائس السماء وهي أشكال هندسية شبيه بالدمية . ومن بين أيضاً المنشآت الصوفية الزوايا والأربطة . ويشرح لنا الباحث الأستاذ عبد الله محمد الحبشي وظائف تلك الزوايا والأربطة ، فيقول : “ على أنّ للمشيخة ـ الصوفية ـ مقر خاص عرف عند الصوفية باسم ( الرباط ) أو ( الزاوية ) يكون مأوى للمريدين ، ومن يريد أداء بعض العبادات “ . ويحدد الحبشي تاريخ انتشار تلك الزوايا والأربطة في القرن التاسع الهجري ( القرن الخامس عشر الميلادي ) ولكن ـ مع الأسف الشديد ـ لا يحدد لنا الزوايا والأربطة التي كانت تمتلئ بها عدن في تلك الفترة التاريخية . ولكن الشيء الثابت والمؤكد هو أنه كان يوجد زوايا وأربطة صوفية في أحياء عدن نظراً لانتشار الطوائف الصوفية المختلفة والمتنوعة في عدن ـ كما أسلفنا ـ . كالطائفة الشاذلية ، والقادرية ، والرفاعية ، وكان لكل من تلك الطوائف أو الطرق الصوفية زواياها وأربطتها الخاصة بها . وكما قلنا سابقاً إنّ تلك المنشآت الصوفية الدينية أو بتعبير أدق العمارة الصوفية تدخل في صميم تاريخ عدن الاجتماعي الذي نحن في أمس الحاجة إلى اماطة اللثام عنه نظراً للضبابية الكثيفة التي تلفه حتى هذه اللحظة . [c1]أغاني البحارة :[/c]يرى الدكتور شوقي عثمان أنّ “ سطراً واحداً في أغنية يمكن أنّ يغني عن صفحات “ . ويضرب مثالاً على ذلك ، فيقول : “ ففي إحدى أغنيات شرق أفريقيا تذكر الأغنية . يا فتاتي العزيزة ، سيصلك منا أقمشة جديدة ، ما لم تعق المونسون الجنوبية الغربية السفن ، أو يعترض التجار العرب أي من عوامل سوء الحظ “ . ويشرح الدكتور تلك الأغنية الأفريقية ، قائلاً : “ وندرك من هذه الأغنية أنّ المونسون وهي الرياح الموسمية الجنوبية الغربية . كانت تعوق حركة التجارة ، كما أنّ القائمين على أمر التجارة بالساحل الشرقي لأفريقيا كانوا من العرب “ . ويؤكد الدكتور شوقي عثمان بأن الأغنية أو الأغاني الشعبية تمثل مرجعاً هاماً لكونها تمد الباحثين والمختصين بالمعارف التاريخية وإلى جانب أنّ الأغنية الشعبية تعد مصدراً هاماً من مصادر التاريخ الاجتماعي الذي نفتقده في المراجع التاريخية المكتوبة أو بالأحرى أنّ أغاني البحارة تعد من المصادر الشفهية التي تكشف النقاب عن الحياة الاجتماعية في المدن المطلة على البحر . وهذا الكلام ينطبق على أغاني البحارة سواء في عدن أو الشحر ، أو المخاء أو الحديدة ، وغيرها من المدن الواقعة على السواحل اليمنية المترامية الأطراف . والحقيقة أنّ أغاني البحارة الشعبية تجسيماً حياً وصادقاً ، فكلمات أغاني البحارة تخرج من القلب إلى القلب أو بتعبير أخر أنّ صدق وجمال أغاني البحارة خالدة دائما في مشاعر وأحاسيس الناس ، لكونها تخرج بشكل تلقائي دون تكلف وتصنع فتطبع في عقول وقلوب ونفوس الناس عبر التاريخ ، فتتداولها الألسنة من جيل إلى جيل بسهولة ويسر ، فالأغنية الشعبية تتميز أنها صادقة نابعة من خوالج النفس فهي تنساب في النفوس ، كما تنساب المياه الصافية الرقراقة في الجندول أو النهر الصغير . فإذا تحدثنا عن أغاني البحارة في الشحر أو في سقطرى أو في ( المخا ) ، فكأنما نتحدث عن أغاني البحارة في عدن لكون تلك المدن الساحلية أو السواحيلية تشكل كياناً واحداً في العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية أو بالأحرى بيئتها واحدة نابعة من البحر . [c1]“ عندي دوا الناس ما عندي دوا روحي “ :[/c] ويقسم الكاتب والقاص الكبير حسين سالم باصديق أغاني البحارة إلى ثلاثة أنواع ، النوع الأول “ هو أغاني العمل . . . وهذا النوع يهدف إلى شد نشاط البحار نحو عمله في رتق الشباك , وإصلاحها وإعدادها “ . أمّا النوع الثاني من أغاني البحارة الشعبية وهي المهمة ، فيغنيها البحارة على ظهر قارب الصيد وهو يجدف لتتمشى الأغنية مع أيقاع التجديف وتشتد سواعده أو هو على السفينة يواجه الأمواج العظيمة الصاخبة و يصارعها “ . ويسترسل ، قائلاً : وهناك نوع ثالث من أغاني البحارة الشعبية وهي أغاني المساء أو السهرات والفرح . ويضرب الأستاذ حسين سالم باصديق بعض من نماذج أغاني البحارة المختلفة . فهو يذكر ما يرددنه النساء مع أطفالهن وهن يستقبلن رجالهن البحارة المصطفون في مرسى الميناء أو شاطئ البحر ، بعد أنّ فراق طويل ، كانوا متن السفن في عرض مياه المحيط ، يغنين ، قائلات : “ حيّا ومرحيب بالهادف ومن هو حضر[c1] *** [/c]رجال مثل النمارة ما تهاب الخطـر “ .وعندما يتم اللقاء في الساحل ويتصافحون يردد الجميع أهزوجة جميلة مهنئين بسلامة الوصول ، قائلين : ( سلومة ، سلومة ) أي الحمد لله على السلامة والعافية بوصولكم “ . وفي موضع آخر يذكر حسين سالم باصديق معاناة البحار أو البحارة في وسط مياه المحيط الهائجة ، والليل المظلم يحيط به من كل مكان ، وفي تلك الحالة الصعبة والقاسية ، تتراءى أمام عينيه حبيبة فؤاده ، فيترنم ، قائلاً : “ يا نجمة الصبح طلي وارجعي وروحي[c1] *** [/c]وسلمي لي على من عندهم روحيبحق من أنزل القرآن في اللوح[c1] *** [/c]عندي دوا الناس ما عندي دوا روحي “ ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّ تلك الأغاني الذي يترنم ويبثها البحار أو البحارة في وسط مياه البحر الثائرة ، وأمواج البحر العاتية التي تحاول أن تسحب معها إلى قاعها المظلم البحارة ما هي إلا بمثابة طوق النجاة التي يتشبث بها حتى تمده بالصبر ، والجلد على مقارعة الأخطار في الأسفار فأغاني البحارة هي بصيص أمل للبحار تنفخ فيه روح الشجاعة و الإصرار والعزيمة على التمسك بأهداب الحياة ليعود إلى شاطئ مدينته غانماً سالماً .[c1]من المواويل البحرية :[/c]ويقتطف الكاتب القاص حسين سالم باصديق بعض من أغاني البحارة النابعة من المناطق التهامية الساحلية كالمخا ، الحديدة ، اللحية ، وكمران ، فيقول : “ . . . . وهذا موال بحري فيه إظهار للاعتزاز بذوي المال ، وللهوان ، والضعف لمن لا مال له ، فيقول الموال : “ سلامات سلاماتيا للى ما تقولو سلاماتيا للي سلامكم سلى .واحنا سلامنا ماتاللى بماله فرشوا له الحرير قاماتواللي بلا مال ذاق الغلب حتى مات “ .[c1]ريشة في مهب الريح :[/c]ويعتقد الكثير من الناس إن لم يكن أغلبهم ، عندما تترامى إلى أسماعهم كلمات الأغنية التي يبثها البحار إلى محبوبته والألم والحزن العميقين يعصران قلبه المكلوم بسبب فراقه عنها . والحقيقة أنّ تلك الكلمات ظاهرها الحب العذري ولكن باطنها هو الشوق الجارف لمدينته وأهلها ، ويترنم بتلك الأغنية العاطفية وهو على ظهر السفينة في وسط المحيط ، تصارعه الأمواج العاتية ، ويصارعها والظلام الحالك يجثم على صدوره ، وزئير الرعد يخرق آذنيه ، وبرودة المياه تجمد أوصاله . والموت يتربص به من كل مكان، وهو على متن السفينة الصاعدة والهابطة على مياه البحر الغاضب كأنه ريشة في مهب الريح يتذكر كوخه المتواضع البسيط المليء بالدفء والحنان العميقين . فالكثير من كلمات أغاني البحارة التي تدور عن لوعة فراق الحبيبة ما هي في الحقيقة إلاّ إسقاط على غربته عن مدينته , و بيته ، وأهله . [c1]يحمل مدينته في داخله :[/c]والحقيقة أنّ البحار يتسم بالعاطفة الجياشة ، ويتميز بالحنين الجارف نحو مدينته ، وأهله ، وأحبابه ، وأترابه بسبب الأسفار الدائمة والبعيدة عن المدينة التي ولد وتربى على حجرها . ولذلك نلاحظ أنّ أغاني البحارة الشعبية تتميز كلماتها بالقلق والخوف الدائمين من الفراق والغربة ، المكتسية بالحزن العميق . وتشعر أنّ البحار وهو في الأسفار الكثيرة يحمل وطنه أو مدينته وأهله في داخله وفي قلبه ووجدانه ، وخوالج نفسه ، فهي لا تفارقه مهما شرق أو غرب . وفي هذا الصدد ، يقول : “ فالبحار صياد أسماك ، كان أو ملاحاً في سفن لنقل البضائع أو غيره هو إنسان عاطفي ذو إحساس ومشاعر وجدانية “ . [c1]رياح الخليج :[/c]والحقيقة أنّ عدن منذ التاريخ البعيد ، كانت لها علاقات وثيقة مع الخليج العربي وبعبارة أخرى أنّ علاقاتها التجارية مع المدن الساحلية الخليجية كانت علاقة قوية ومتينة . فكانت السفن الخليجية ترسو في ميناء عدن وتحديداً في ميناء المعلا. وكان يسارع البحارة في عدن بالترحيب والاحتفال بهم ، وعندما يمد الليل ستاره على المدينة والميناء وتهدأ حركته . فتقام السهرات حيث تصدع فيها أصوات أغاني البحارة اليمنيين والخليجيين البديعة ، وأهازيجهم الجميلة ، ويمتزج الغناء فيما بينهم ليؤلفوا معزوفة غنائية هي الغاية في الرواء . وكانت تلك الظاهرة ماثلة للعيان في ميناء عدن حتى نهاية الستينيات فهي تعتبر من تراث أغاني البحارة اليمنيين والخليجيين الأصيل والذي يجب ويتوجب دراسته في ضوء منهج البحث التاريخي الأكاديمي . ونظراً لأهمية ذلك الموضوع المرتبط ارتباطا عميقاُ بأغاني بحارة اليمنيين والخليجيين . نورد ما ذكره الفنان المبدع الكبير خالد صوري عن تدخل واختلاط غناء السواحل اليمنية بغناء السواحل الخليجية الشعبية فيرسم لوحة دقيقة الملامح عن تلك الفترة التاريخية التي غابت عن ذاكرة الناس في الوقت الراهن, فيقول : “ وكانت عدن ميناء يقصدها كل البحارة من جميع الأجناس ومن بينهم البحارة من دول الخليج المجاورة . فقد كان هؤلاء البحارة يتاجرون بالجرار الخزفية ، والتمر وغيرها من الأشياء . فقد خلقت تلك الزيارات المستمرة لميناء عدن بعض العلاقات بين فناني اليمن وفناني الخليج واشتهرت في تلك الأثناء أغاني مثل ( متى يا كرام الحي عيني تراكمو ) ، و ( ابن جعدان ) . وكانت السفن الشراعية الراسية في ميناء المعلا ليالي ساهرة يحضرها الكثير من المعجبين بفن وألحان مناطق الجزيرة والخليج لأنّ كل من هذه السفينة تؤجر فناناً ضمن طاقم السفن . وكانت مهمة هذا الفنان هي تسلية طاقم البحارة والمسافرين في ليالي البحر الطويلة “ . [c1]البحر والناس :[/c]ولا نبالغ إذا قلنا إنّ البحر ، كان له بصمات واضحة على عقول ، وقلوب ، ونفوس ، وسلوك أهل عدن منذ الأزل ، فقد تعلموا منه الصبر ، والجلد ، والمثابرة ، والمغامرة في اختراق المجهول ، فطبائعهم مثل البحر وأمواجه . وفي هذا الصدد ، يقول المؤرخ عبد الله محيرز : “ وأضفت صلابة الجبل ، وقسوة الطقس ، وعنف أمواج البحر على أهلها صلابة ومرونة في آن واحد حصنتهم ـ ضد تقلبات الدهر ـ بالحكمة والصبر الجميل “ . ويضيف ، قائلاً : “ يفدون إليها من كل ركن منه ، فرادى وجماعات ، ويصيرون أهلها ، وتصهرهم بطابعها . يتجدد شبابها في كل جيل ، نضارتها مع كل دم وافد جديد “ . [c1]الهوامش :[/c] د / سيد مصطفى سالم ؛ البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية ، الطبعة الأولى ــ 2002م ـ الناشر : مؤسسة الميثاق للطباعة والنشر ـ صنعاء ـ . رحلة ابن بطوطة ؛ دار الشرق العربي ـ بيروت ـ لبنان ـ حلب سورية ـ .القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ الدولة الرسولية ( 626 ـــ 858 هـ / 1228 ـــ 1454م ) ، الطبعة الأولى 2003م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر . د / شوقي عبد القوي عثمان ؛ تجارة المحيط الهندي في عصر السيادة الإسلامية ( 41 ـ 904هـ / 661 ـ 1498م ) ، عالم المعرفة ، 1410هـ / 1990م ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت ـ .حسين سالم باصديق ؛ في التراث الشعبي ، الطبعة الأولى 1414هـ / 1993م ، مركز الدراسات والبحوث اليمني ـ صنعاء ـ .عبد الله أحمد محيرز ؛ العقبة ، 1425هـ / 2004م ، الناشر : الجمهورية اليمنية ـ وزارة الثقافة والسياحة ـ صنعاء ـ .عبد الله الحبشي ؛ الصوفية والفقهاء في اليمن ، 1396هـ / 1976م ، مكتبة الجيل ـ صنعاء ـ .محمد زكريا ؛ مساجد اليمن ، الطبعة الأولى 1416هـ / 1996م ، مركز عبادي للدراسات والنشر ـ - صنعاء ـ الجمهورية اليمنية ـ . خالد صوري ؛ الفنان الرائد خليل محمد خليل ، سنة الطبعة 2003م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر .
|
تاريخ
عدن والبحر والناس
أخبار متعلقة