قبل 14 عاما خاض الآلاف من الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية إضرابا شهيرا استمر لـ19 يوما، امتنعوا خلالها عن تناول الطعام وقاموا بمظاهرات عارمة داخل السجون مطالبين بسلسلة من الإجراءات والخطوات الكفيلة بتوفير الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة، وكان أبرز تلك المطالب هو التمتع بحق الدراسة الجامعية عن طريق المراسلة، وهو ما تحقق أخيرا وبات منذ العام 1992 من حق المعتقلين في السجون الإسرائيلية إكمال مسيرتهم الدراسية وهم مغيبين داخل غياهب سجونهم.كان هذا نصرا كبيرا للحركة الأسيرة في السجون الاسرائيلية وأثبت جدوى الاحتجاجات الطويلة الأمد للمطالبة بحقوق بسيطة لا بد من توفرها حتى خلف القضبان بحسب قولهم آنذاك؛ كان عميد الأسرى اللبنانيين حينها سمير القنطار من أبرز القائمين على هذا الإضراب الذي لا يزال عالقا بذهن الأسير المحرر عبد المنعم الذي يقطن الآن في مدينة رفح جنوب قطاع عزة.عبد المنعم يذكر جيدا أن القنطار حقق بعد هذا الإضراب نصرا كبيرا مع أخوته الأسرى وانتزعوا من سجانهم حقا لا يتمتع به الأسرى العرب في السجون العربية، لذا كان هذا العام مفصليا في تاريخ الحركة الأسيرة في السجون الإسرائيلية.يستذكر عبد المنعم (41 عاما) ما جرى بعد هذا الإضراب ويسهب بالحديث كما لو انه حدث قبل أيام فقط، "لقد شعرنا بعد رضوخ إدارة السجن لمطالبنا بنصر كبير وثقة عالية، خصوصا بعد التنسيق المحكم بين جميع السجون رغم صعوبة التواصل والاتصال، ولم نفرّط بتلك الفرصة النادرة فبدأ عدد كبير من الأسرى باتخاذ الخطوات الأولى نحو الالتحاق بـ"الجامعة العبرية المفتوحة" في تل أبيب وهي الجامعة الوحيدة التي سُمح لنا بالالتحاق بها بنظام المراسلة عن بعد".كانت تكلفة الدراسة باهظة الثمن وليس من السهل على أي أسير الحصول على تلك الفرصة المُنتظرة، لكن المشكلة وجدت طريقها للحل بعد قدوم السلطة الفلسطينية عشية اتفاق أوسلو في عام 1994، حيث تكفلت السلطة ممثلة بوزارة شئون الأسرى، بدفع الأقساط عن الطلبة، لتزيل عن كاهلهم حملا ثقيلا لم يكونوا ليتحملوا أعباءه.سمير القنطار كان من أوائل الأسرى الذين التحقوا بالجامعة العبرية ونجح بالحصول على شهادته الجامعية في عام 1997 بعد أن تخصص بدراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية، وقد حاول بعدها بعام واحد متابعة تحصيله العلمي ونيل شهادة الماجستير في أحد الجامعات الخاصة، لكن طلبه قوبل بالرفض القاطع.لم يخطر ببال أحد منا كيف سيدرس ويكمل مسيرته في الجامعة وهو قابع بين أسوار سجن لعدو ما فتئ يتفنن بالتضييق وتشديد الخناق على الأسرى، لذا كان لا بد من العودة لعبد المنعم ليشرح لنا ذلك.. يعيد "مُنعم" شريط الذكريات مرة أخرى ويصف العملية بأنها تحدٍ صعب وقاسٍ جدا، لكنه لا شيء أمام عزيمة وإصرار من دفع نفسه وحياته ثمنا للحرية والكرامة "يبدأ الأمر بمراسلة الجامعة عبر البريد العادي، وبعد طول انتظار ترد تلك الجامعة إما بالموافقة أو الرفض، وذلك طبعا بعد اخذ المشورة من إدارة السجن، يكون محظوظا من تأتيه الموافقة فيبدأ خطواته الأولى بإرسال المبلغ المالي المطلوب، ومن ثم تقوم هي بإرسال النماذج والتعيينات الدراسية، وكل ذلك يستغرق وقتا كبيرا بفعل التضييق المتعمد من إدارات السجون".يتابع الأسير المحرر الذي يعمل الآن في جمعية الأسرى والمحررين الفلسطينيين "تكون الخيارات أمام الطالب محدودة، لا يمكنه دراسة أي تخصص يحتاج إلى جهد عملي، فإدارة السجن ترفض ذلك، لذا يتخصص معظم الأسرى الدارسين في الجامعة العبرية في العلوم الإنسانية، السياسية منها والاجتماعية، فأنا مثلا تخصصت في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية، لكن يحدث أحيانا أن تمنع إدارة السجن بعض المقررات والمواد المتعلقة بالسياسة، كما أن الدراسة تكون باللغة العبرية فقط.. نحن مجبرون على الموافقة على جميع شروطهم، مهما كانت مجحفة".وعن الطقوس الخاصة بالدراسة داخل السجن يناقض عبد المنعم النظرة المتوقعة لدى الجميع عن ذلك "معظم الذين لم يجربوا الاعتقال يعتقدوا بأن السجين لديه فرصة ذهبية للدراسة لساعات طويلة والتحصيل بشكل أكبر كونه بعيدا عن مشاغل الحياة ومتاعبها ومسؤولياتها، ولديه وقت فراغ طويل، لكن الواقع عكس ذلك تماما، فالحياة داخل السجن لها خصوصياتها، والدراسة من اجل التحصيل العلمي تختلف عن الدراسة من أجل زيادة الثقافة والاطلاع، كما أن معظم الأسرى يجدون أنفسهم مع مرور السنين منخرطين ومنهمكين بنشاطات خاصة داخل السجن لتأخذ الكثير من وقتهم وجهدهم؛ فالسجن مهما زادت وحشته إلا أنه يتحول تدريجيا إلى مجتمع خاص وقائم بذاته".وفي نهاية كل فصل جامعي وعندما يأتي دور تقديم الامتحانات يتحول السجن إلى قاعة كبيرة يسعى فيها الأسرى غير الملتحقين بالجامعة إلى تقديم كافة سبل المساعدة والعون لزملائهم، ليكرسوا مبدأ التعاون والتعاضد، وعادة ما ترسل الجامعة مراقبين خاصين للإشراف على الامتحانات التي يخضع لها المعتقلين.ما يثير الغرابة في تلك التجربة أن الطالب ينهي دراسته ويحصل على شهادته الجامعية دون أن يرى جامعته أو يدخل أسوارها، ودون أن يرى مدرسيه وزملاءه ودون أن يحتفل مع الخريجين بنيله لشهادةٍ تعب كثيرا من أجلها ولم يكن لينالها لولا أنه أسير !.لكن أسير فلسطيني شذ عن تلك القاعدة عندما حان موعد إطلاق سراحه وهو لم ينهي دراسته بعد، فما كان منه إلا أن ذهب إلى الجامعة وأنهى الفصل الأخير منها وهو يتمتع بعبق الحرية.
سجون إسرائيل تتحول إلى جامعات !
أخبار متعلقة