في مقال فاجأ فيه الكاتب الإسلامي الكويتي عبد الله النفيسي الكثيرين، دعا الرجل أخيرا جماعة الإخوان المسلمين إلى حل نفسها لأنها أصبحت حملا ثقيلا على الحالة الإسلامية، طالبا من الجماعة الأم في مصر الاقتداء بفرع الإخوان في قطر الذين توصلوا بعد دراسة داخلية لأحوال التنظيم إلى وجوب حل أنفسهم في قطر، حسب دراسة مهمة كما يصفها النفيسي، وانتهت الدراسة التي لم ينشر قسمها الثاني حتى الآن، كما يقول، إلى قرار حل التنظيم في العام 1999، والتحول إلى تيار فكري إسلامي عام يخدم القضايا التربوية والفكرية في عموم المجتمع.خلاصة رأي النفيسي في مقاله الذي عنونه بـ«الحالة الإسلامية في قطر»، هي أن فكرة التنظيم بالنسبة للجماعة هي فكرة غير فعالة، وقد تحول كيان الجماعة التاريخي بسبب ثقل التنظيم وترهله، وبسبب خصوماته مع الحكومات، إلى عنصر معيق لنمو وإنتاج الحالة الإسلامية، ونقل عن شخص قطري من الإخوان المسلمين «سابقا» عبارة مثيرة.نترك النفيسي يرويها لنا بطريقته: «لقد أظهر القطريون نباهة مبكّرة سوف تختصر عليهم كثيراً من المشاكل التي يمرّ بها إخوانهم في أقطار أخرى من الجزيرة العربية مثل الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان. سألت أحد القائمين المهميّن بهذه الدراسة بجزأيها: الآن وبعد هذه السنين ما رأيك بالإخوان في مصر ؟ قال: «لقد تحوّلوا إلى اسفنجة تمتص كل الطاقات وتجمّدها».ولعله من اجل أن لا تمتص هذه الأسفنجة المزيد من طاقات أبناء قاعدة الحركات الإسلامية وأنصارها، وأيضا من اجل بقاء الهدف الرئيسي للحالة الإسلامية، وهز سبب قيام الجماعة أصلا 1928، ألا وهو تنفيذ المشروع الإسلامي وحشد الطاقات له، والنزول للميدان من أجله، حسب شروحات المؤسس البنا.. من أجل هذا كله فإنه يجب الالتفات للهدف الكبير وعدم حماية الوسيلة على حساب الغاية، خصوصا أن هذا الهدف الآن يتعرض إلى أضرار وعقبات تحول دون الوصول إليه، وما ذاك إلا لأن التنظيم نفسه أصبح اكبر من الهدف، وبالتالي أصبحت هناك حالات نفور وخروج من التنظيم من قبل بعض الكفاءات، خصوصا في مصر.وحسبما يشرح كاتب وناقد «داخلي» آخر للإخوان قدم دراسة حول مستقبل الإخوان كتنظيم، وأشار فيها إلى حالات الشيخوخة التي أصابت التنظيم، وكيف أن حلمي الجزار، احد قيادات الجماعة، اقنع جيل مصطفى مشهور وحامد أبو النصر بوجوب إدخال كوادر الجماعة الشابة، حينها، إلى كادر القيادة، لكن ذلك لم يفلح في تنشيط التنظيم، ولم يمنع من خروج حزب الوسط في مصر، كما أن ضيق الجماعة / المركز، باجتهادات بعض مثقفيها، عجل بوجود حالات انشقاقية عن الجماعة، كما حصل مع الترابي في السودان، والى حد ما حزب النهضة في تونس، ناهيك من ظاهرة المستقلين عن الجماعة مثل الشيخ محمد الغزالي وعبد الحليم أبو شقة في مصر، وفي الأردن بسام العموش، عضو التنظيم الدولي للجماعة والوزير الأردني السابق، بل حتى النفيسي، يصلح إلى حد ما كمثال على ظاهرة المستقلين عن الجماعة.دعوة النفيسي الأخيرة الإخوان إلى حل تنظيمهم والتحول إلى: «تيار فكري إسلامي عام يخدم القضايا التربوية والفكرية في عموم المجتمع»، بدل أن يكونوا تنظيما سياسيا، لم تلق ترحيبا من الإخوان في مصر، وقال نائب المرشد محمد حبيب لصحيفة «الشرق الأوسط» الاثنين الماضي: «ليس لدي تفاصيل عن الحالة القطرية حتى نتحدث عنها».وأضاف «هذه الأسس (يقصد مبادئ الإخوان) لا بد أن يحملها وينشرها ويدعو لها رجال، وهؤلاء الرجال يجب أن يكونوا منظمين في تنظيم». وقال حبيب:« ليس من المنطقي أن يعمل كل فرد في اتجاه منفرد ومختلف، والتنظيم يحدد البوصلة والأصول حتى لا يتم فقدان الحركة والمنهج».ورأى البعض الآخر أن في دعوة النفيسي هذه محاربة للمشروع الإسلامي الذي يمثله الإخوان، فهم «قلب القلب» للتيارات الإسلامية، وذكر البعض بمساهمات النفيسي النقدية ضد الحركة الإسلامية منذ عمله «التحريري» الذي صدر في عام 1990 بعنوان «الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي» قدم فيه النفيسي نقدا لواقع ومسيرة الجماعة ودعاها حينها إلى التحول من حالة «التنظيم» إلى حالة «الحزب» أسوة بالتجربة السودانية، والآن يعود وينتقد تصلب التنظيم وصيرورته حزبا! هكذا قال بعض المدافعين عن تجربة الإخوان السياسية.لكن الواقع ان استبداد رجالات التنظيم ومنعهم لأي مرونة وتحول داخلي، واحتكارهم للقرار الداخلي، ومثال «افتئات» مأمون الهضيبي على بقية قيادة الجماعة في بيعة مصطفى مشهور وهم في جنازة حامد أبو النصر، حادثة دالة ومعبرة، كما ان ضيق شيوخ الجماعة بشبابها أمر شهد به من لا يطعن في حبه وولائة للإخوان، مثل الشيخ يوسف القرضاوي الذي حذر في كتابه (الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد) من تصلب قيادات التنظيم في قبول التطوير الداخلي، حتى، مؤكدا أن البنا في قبره لن يضيق ذرعا لو اجتهد بعض تلاميذه أو محبيه في تطوير العمل، ومؤكدا أيضا أن كل من حاول التغيير أو التطوير في أسلوب العمل يقابل بالرفض والجمود الشديد.لكن تبقى دعوة النفيسي هي الأخطر والاهم، ذلك أنها تؤشر، كما أفهم، إلى أن العمل السياسي البحت للإخوان، الذي يعتبرونه نوعا من الجهاد والتكليف الشرعي الديني، هو في الحقيقة عمل دنيوي وتعرض للإخفاق، وان هذه التجربة الطويلة والمرهقة منذ حوالي قرن من الزمان، منذ أن أطلق شرارتها المرشد الأول على ضفاف مدينة الإسماعيلية، قد وصلت إلى محطاتها الأخيرة، لكن ذلك لا يعني انتهاء فكرة الإسلام السياسي، وربما من اجل الحفاظ على هذه الفكرة التي أثقلها ميراث الإخوان وقاطرتهم الضخمة والمزدحمة لدرجة التعطل، من اجل ذلك كله نادى أشخاص ومثقفون ينتمون لحالة الإسلام السياسي، مثل النفيسي، بالتضحية ببعض الحمولة من اجل سلامة السفينة، سفينة الخلاص الاسلاموي. ولا ندري عن طبيعة وكنه الحل الذي يقترحه النفيسي بالتحول إلى «تيار» رغم انه اجتهد كثيرا لشرح المفهوم، ولكن هذا لا يغني من القول بأن ما قيل يشير إلى لحظة اعتراف طال انتظارها.والآن، هل يعني ترهل جسم الإخوان الرئيسي، وتحولهم إلى عبء على بقية المقتنعين بالمشروع الاسلاموي السياسي، أن فشل التنظيم جاء لأسباب داخلية بحتة، ام بسبب القمع الأمني المتواصل من قبل «اغلب» الحكومات العربية ؟!ربما كان الأمران معا، ولكن في النهاية نحن إزاء جدل صادر من قبل أبناء الحركة الإسلامية، جدل ساخن يشي بان هناك بناء يتهاوى، وورقة آيلة للسقوط، ورقة التنظيم السياسي الإسلاموي الأبرز، بانتظار ورقة أخرى، اسمها ورقة التيار.ما يثير في نقد كاتبنا د. عبد الله النفيسي، انه وهو المعجب من طرف خفي بحالة «الممانعة» أو «المقاومة» التي يمثلها نموذج القاعدة للمشروع الأمريكي، كما هي خلاصة تحليلاته الطويلة، نراه هنا ينتقد بحدة تجربة الإخوان التنظيمية، فهل هو، كما لاحظ بعض المدافعين عن الإخوان، يريد «كنس» المشهد لحالة إسلامية ثورية جديدة ؟! أم هو أحد تجليات الدكتور عبد الله التي لا تنتهي؟!يبقى القول إن دعوة النفيسي جديرة بالقراءة والتأمل، كما أن الإخوان، خصوصا في مصر، يجب أن يعرفوا أنهم لم يعودوا «فاتيكان» الإسلام السياسي، وان طيورا كثيرة من الجماعة قد طارت خارج العش، وان منها من طار كثيرا وحلق في سماء بعيدة عن التنظيم أو التيار، وفوق هذا كله، ما قيل ويقال يجعلنا ندرك، المرة تلو المرة، أن كل تجارب الحركات الإسلامية ليست إلا تجارب سياسية بحتة قابلة للأخذ والرد، بل والإلغاء والحل، وليست عملا محميا ببريق التكليف السماوي، كما يقال لنا، تلميحا أو تصريحا.[c1]* نقلاً عن صحيفة ( الشرق الأوسط) اللندنية[/c]
هل الحل هو الحل ؟
أخبار متعلقة