.jpeg)
يحكي كرامان حكايات لايمكن أن تكتبها إلاّ مدينة تتوضأ بالبحر، تتنفس هواءه وتسكنها روحه وتتذوق طعمه المالح...ويتحفنا بقصص من عطر البحر، عن أحياء المكلا القديمة، وبيوتها العتيقة.. الملوحة العالقة في جدرانها، بكل ما تزخر به البيوت من ذكرى، وذاكرة عصية على النسيان، تحاول الثبات رغم تقلبات الزمن، وتغير الأحوال. عن تعديات طالت مباني هنا وهناك، وأخرى فشلت محاولاتها اليائسة الحفاظ على تاريخها ونمطها المعماري فاختفت، وثالثة تجاهد لصون ما تبقى منها ولنا من قوة سحر كانت لها ذات زمن، لايعرف قيمتها إلاَّ من كان عاشقاً لها من كبار السن من أهل المكلا الذين عاشوا ذلك الماضي ولم تسرق منهم فورة النماء، حبهم للبحر ولمدينتهم الجميلة.
تبدو المكلا طالعة مثل مدن الأساطير من لجة البحر، بيضاء وبهية وساحرة. عرفت كيف تأسر وتستولي على قلب طفل، منذ عرفتها مع أبي في نهاية خمسينيات القرن العشرين الماضي، وتجعل منه عاشقاً لها إلى الأبد..
سحر المدن هي المكلا على بحر العرب، فرضة حضرموت وعاصمتها وحاضرتها التي تتدفق فيها الحياة. تختزل كل تاريخنا البحري..من قنا إلى القرن وشرمة والحامي إلى الشحر وشحير وبروم إلى قصيعر والريدة ونشطون.
للمكلا القديمة في بعض أحيائها خاصية لا تتمتع بها كل مدن البحر، بنيت على حد السيف حيث يتكسر الموج على الحياط، ويعزف تلك الأنساق الأخاذة في تناغم طوال الليل وجزءًا من النهار، يبوح أسراره دون توقف..لا تدري للحيطان يرويها، أم لسكان البيوت؛ عن مخلوقات البحر الغريبةوالأسطورية، وعن كائنات البحر الخيالية المخيفة، عن حوريات البحر والبحارة التائهين.. وعن العشاق الذين تاهوا في حب الوطن! عن جمال قناديل البحر وذكاء الدلافين والحيتان. عن الحوت الذي ابتلع يونس، والحوت الذي نسيه فتى موسى “يوشع بن نون” فاتخذ سبيله في البحرسَرَباً، عن الربان المعلم أحمد بن ماجد، والربان المعلم سليمان المهري، وعن الملاح الفلكي الشيخ باطايع. عن منازل القمر ، والبروج، وعن منظومتيه اللتين كانتا مرشداً لربابنة السفن. عن الأولياء الصالحين ومساجدهم، وعن التغريبة الحضرمية التي لاتنتهي.. بعض القصص حقيقية، والبعض يختلقها ! يعزف البحر طوال الليل مع المد تلك السوناتا و ينسحب بصمت مع الجزر فتنكشف عنه مساحات عارية لأشعة الشمس وللعب الأطفال ولنجوم كرة القدم في سيف حميد : عبد الرب ادريس، والكابتن طاهر باسعد، وقليد(كرباش) وعوض حاتم والكابتن عوض باني وعصام وغيرهم ممن وضعوا بصمتهم في الذاكرة الرياضية في حضرموت.
ولحكايات محمد عمر كرامان؛ نصيب وافر عن “حي البلاد، الواجهة البحرية لحافة القالدة وحافة الهنود والواسط حيث تطل البيوت العتيقة مباشرة على البحر وتلامس الأمواج جدرانها كما لو أنها تهمس لها بأسرار البحر..تتكسرالأمواج على الجدران فتعزف سيمفونية فريدة موسيقى هدير يتناغم مع وجدان المكان وخصوصاً في موسم نجم البلدة حين يزحف البحر برذاذه إلى الأزقة والبيوت ويتسلل إلى كل زاوية ومطراق ناشراً عبيراً مالحاً بطعم البحر “. وتمتد ذاكرة البحر إلى “مسجد علي حبيب الذي ينتصب على ضفاف البحر، في أحد أجمل الزوايا البحرية لحي البلاد بالمكلا ، صغيراً في حجمه عظيماً في حضوره ومكانته في قلوب الناس، فجاء موقعه فريداً لا يشبه غيره على صخرة كبيرة تتوسط البحر وكأنها منبر ممدود بين الموج والسماء”. ولاتكتمل ذاكرة البحر دون أن يعرج كرامان على” ساحة قصر السلطان القعيطي البحرية ..( قصر المعين) هذا المكان الساحر حيث كانت الأشجار الظليلة تعانق زرقة السماء والبحر يلامس أطراف الساحة بهدوء ورذاذ نجم البلدة يمنح للمكان نكهته الخاصة. حينها كانت الساحة متنفساً للأهالي وخاصة النساء وتتسع لأحاديثهن والضحكات في العصاري “.
وهل لحكايات محمد عمر كرامان عن المكلا القديمة طعم دون أن يكون من بينها شارع ركن مسجد عمر - برع السدة الذي لايزال يحتفظ برائحة البحر وصوت الأمواج، ذاك الشارع المفتوح الذي يطل على البحر ويعانقه كل صباح ومساء حيث تتسلل نسمات المحيط إلى صدور المارة وتغسل وجوه البيوت القديمة برذاذ مالح ناعم . فيه تلتقي الوجوه وتتشابك الحكايات، يأتيه الناس من كل حدب من الأهالي والمجاورين، ومن القرى والريف المحيط بحثاً عن الدفء الإنساني والخدمات الأساسية التي طالما تميّز بها المكان من مطاعم ومقاهٍ ومسجد وروح بحر لا تنام” .
لا ندرك جمال وروعة المدن إلا عندما يكتب عنها أحدهم بحب وشغف، وهذا ما يفعله محمد عمر كرامان عن المكلا القديمة..