تجربة أم في عالم التوحد
السيدة سميرة سالم أم بلال / ابوظبيالتوحد هو بلورة من الكريستال دخلها ابني لتعزله عني وعن العالم ، وكأنه في كوكب آخر ، فلا نظرة من عينه إلى عيني ، ولا إشارة تصحبني فيها أصبعه ، لم يرد ولا لعبة نشاطر فيها الخيال ، ولا قبلة أشعر معها بطعم الدنيا ، كم تمنيت أن اكسر تلك البلورة وأخرج منها صغيري .... أهزه ... أهزه بعنف لعله يعود من منفى توحده ، وعندما يئست قررت أن اخترق البلورة وأدخل عالم التوحد Autism بحثاً عن ابني ، الإنسان المتوحد هو إنسان يحيا في بيت زجاجي ، يرفض الخروج منه أو دخول أحد إليه ، وكأنه معزول عن العالم ، (أحد الخبراء المتخصصين): الإنسان المتوحد كمن يركب أرجوحة تعمل دائماً وتتحرك ، ويرفض أن ينزل منها ليعيش معنا ويمشي على الأرض . (أحد المتخصصين): ابني كان طفلاً طبيعياً جداً ، يتكلم ، ويلعب ، ويجري ، وفجأة ظهر وحش اسمه التوحد ، افترس ابني أمامي ، ولم أعد أستطيع أن أفعل شيئاً من أجله لكي أنقده.وقالت السيدة. سميرة سالم اول جملة (( المال والبنون زينة الحياة الدنيا )) صدق الله العظيم أجل البنون زينة الحياة ، وثمرتها الشهية ، وهم مصدر بهجة وسعادة غامرة للأبوين ولكن بقدر ذلك نجدهم أيضاً مصدر هم وخوف ، وامتحاناً صعباً للأبوين في صبرهما ومدى تحملهما رسالة الحياة ومسئوليتها ، يشكران ويحتسبان أو يجحدان ويعترضان على بلاء الله وامتحانه. واليوم أروي لكم تجربتي الأسرية التي عشتها لسنوات خلت مع التعب والسعادة ، اليأس والأمل المرض والتقدم نحو الشفاء في تجربتي مع ولدي “بلال” مريض التوحد وعن فتح فصول التوحد في مركز أبو ظبي للتوحد. أنا أم لخمسة أطفال ، الرابع منهم هو « بلال « عمره الآن 7سنوات ولد ملئياً بالصحة والعافية جميلاً مشرق الوجه ، كان طفلاً رقيقاً متفاعلاً مع الجميع ، تطوره كان طبيعياً بل ويبشر بطفل ذكي ، ولكن كان لنا موعد مع القدر ، فعندما أصبح لبلال قرابة السنة والنصف من العمر سقط عن الكرسي وشج رأسه من الخلف. أخذناه للمستشفى وكان واعياً تكلم مع الطبيب ويده على رأسه ، وقال للطبيب : وقعت ، عمل الطبيب اللازم وطمأننا أن كل شيء طبيعي ، ولكن بعد ذلك بأسبوع ، لاحظنا ابتعاد بلال عنا وعزوفه عن اللعب معنا وعن طلب مشاهدة الرسوم المحببة له، اختفت ابتسامته الحلوة وحل محلها الخوف والصراخ طوال الليل والشرود طوال النهار، اختفت كلماته الحلوة فيما عدا كلمة (وقع) ، أصبحت افتقده طوال النهار ، ابحث عنه في أركان البيت ، فأجده جالساً وحيداً في الصالة غير مبال، وفي الليل لا أعرف ماذا أفعل كي أهدئ من روعه، استمر الحال هكذا نحو 6أشهر وأصبح لديه ضعف واضح في اللغة والتواصل وضعف في مقدرته على مسك الملعقة ليأكل وحمل كأس الماء ليشرب، توجهنا للأطباء بكل التخصصات وعملنا كل الفحوصات الطبية اللازمة، الجميع أكد لنا أنه سليم، وخلال 6أشهر إلى سنة سيعود إلى حالته الطبيعية وعللوا ذلك أنه نتيجة الصدمة التي حدثت له من جراء سقوطه للخلف. ومرت سنة ونصف ونحن نعاني، وولدنا الحبيب لا يشعر بنا، داخلي يتمزق عملت كل ما بوسعي كأم لأستعيده، ركزت أن يبقى بيننا دائماً، أخذت أدربه على دخول الحمام واستخدام الملعقة وحمل الكأس، والحمد لله كم كانت سعادتي عظيمة باستجابة «بلال» بحيث نظف تماماً وعمره 3 سنوات ولم أعد بحاجة لاستخدام البامبرز ولكن ما زلت في صراعي مع صمت ولدي وخوفه وبعده عنا وشعوري بأنه سرق مني، أبحث عنه، أبحث عنه وهو معي في نفس البيت بجسده لا بروحه، مرت علينا الأيام والشهور ثقيلة بطيئة كلها انتظار وكلها أمل بشفاء ولدي كما وعدنا الأطباء، لكن ولدي ليس طبيعياً وهو ليس كسابق عهدي به والجميع حولي يطمئنونني ويقولون لي: إنه طبيعي، لا يشكو من شيء، عنده تأخر في الكلام فقط . كان والد بلال مقتنعاً بكلام الأطباء والأهل وكلما حدثته عن تغير بلال واختلاف سلوكه كان يرد علي : هذا وهم، لا تلصقي بالولد شيئاً ليس فيه وهو مازال طفلاً، كان يعتبر أنني أعطي الموضوع أكثر من حجمه. أما إخوانه فكانوا ينظرون له حائرين لا يعرفون ماذا حل بأخيهم سوى أن ذلك نتيجة سقوطه، وأنه مريض وسوف يشفى، أما أنا فكان شعوري وبصدق أنني أتكلم وسط أناس لا يرون ولا يسمعون، فكيف ألاحظ وهم لا يلاحظون ؟؟ ظل بداخلي شلال من الأسئلة أريد لها جواباً، ماذا حدث لطفلي؟ وأين هو؟ ما شعوره؟ لماذا يبتعد عنا ؟ وكان الجواب بعد سنة ونصف السنة من معاناة لا توصف أنه.............................. التوحد . سمعت هذه الكلمة لأول مرة في حياتي في آخر أيام إجازتنا في فلسطين ومن محلل نفسي، أترون مدى المعاناة عندما لا نعرف ما بولدنا إلا بعد سنة ونصف ؟؟ رجعنا إلى أبو ظبي فدخلنا في دوامة جديدة حيث عارض الأطباء الفكرة وقالوا : لا يمكن أن يكون مرض بلال هو التوحد، بعضهم قال : سلوك انتقائي وبعضهم قال تأخر في الكلام وبعضهم له آراء أخرى، وتم تحويلنا إلى مركز التأهيل الطبي لعمل جلسات تخاطـب لبلال، وهناك اتفقوا في التشخيص مع المحلل النفسي بفلسطين أن بلالاً يعاني من التوحد ، أصبحت أمام أكثر من تشخيص وفي داخلي نار تشتعل أريد أن أعرف ماذا افعل لولدي لأسترده ؟ عندها قلت للأطباء: لا يعنيني أن أعرف اسماً لما يعانيه ولدي ، ما يعنيني هو ماذا افعل ؟ ولدي بحاجة للمساعدة ، أرشدوني من أين أبدأ ؟ وكانت البداية لرحلة طويلة مع التوحد. هنا أصبح همنا الوحيد أن نعرف ما هو التوحد ؟ ومن أين نبدأ ؟ فأخذنا نسأل الأطباء ونستعين بالإنترنت ومراجعة مركز التأهيل حيث تم عمل برنامج تعديل سلوك وليس جلسات تخاطب لحاجة بلال لتعديل السلوك أولاً والتركيز والتواصل معنا. بحثنا عن مركز نضع فيه بلال فلم نجد ما يناسب فقمنا بإلحاقه لفترة بروضة استفاد منها بلال اجتماعياً، وتقبل الآخرين حوله . ولكن هذا لا يكفي ، فقمنا بعمل جلسات تخاطب وجلسات نفسية مع متخصصين ، حرصنا على حضور كل محاضرة أو ندوة أو اجتماع يخص التوحد للتعرف والتدرب على البرامج المختصة لنعرف كيف نتعامل مع ولدنا بلال.وجدت نفسي في دوامة بين مسؤوليتي عن بلال ومسؤولياتي تجاه باقي الأسرة ، عندها قررنا أن نحضر له مدرساً متخصصاً وكان هذا هو الصواب بعينه ، فبوجود المدرس قمنا بتقسيم الوقت بيننا أنا أهتم به صباحاً أدربه على البرنامج المتفق عليه وآخذه للجلسات ثم يأتي المدرس من الساعة الرابعة وحتى الثامنة ليكمل تدريبه وأتفرغ أنا لباقي أولادي لمساعدتهم في الدراسة ومتابعة أحوالهم، والحمد لله بدأ التحسن بطيئاً وبدأ بلال يعطينا تجاوباً ولو بسيطاً فبعد أن كان لا ينظر لأحد ولا يلتفت إذا نادى عليه أحد بدأ يتجاوب وينظر ويتعلم أساسيات الاعتماد على النفس .وما بلال إلى الآن مصابا بالتوحد ولكنه لم يعد وحيدا.