في ذكرى رحيل الشاعر
بعد سنوات من النسيان والصمت كانت "رفح" اول مدينة فلسطينية تتذكر الشاعر الوطني الكبير " ابراهيم طوقان " وتحتفي بالذكرى المئوية لميلاده وفاء من كتابها وشعرائها لشاعر العروبة " المنسي " .. وبعيداً عن رفح اعلن اتحاد الكتاب والادباء الاردنيين عن تخصيص جائزة باسم الشاعر الراحل تختص بالشعر وتلك الالتفاته البسيطة لتكريم الشاعر " طوقان " لاتفي الشاعر حقه كاملاً من التكريم ولكنها جعلتنا نستعيد رنين القصائد الرائعة لابن نابلس الشماء التي عبرت اسوار قلوبنا وازهرت في دمائنا حقولاً من حنين وحماسة الفداء وظلت حية نابضة متوهجة تفيض ( وطنية وهياماً ) بحب الوطن كمطلع قصيدته المشهورة " موطني " التي اختارها الشعب الفلسطيني نشيداً وطنياً له والتي يقول مطلعها : موطني الجلال والجمال والسناء والبهاء في رباك والحياة والنجاة والهناء والرجاء في هواك هل اراك سالماً منعماً وغانماً مكرماً هل اراك في علاك تبلغ السماء موطني .... وقصيدة " الشهيد " التي منها هذه الابيات البديعة : عبس الخطب فابتسم وطغى الهول فاقتحم رابط الجأش والنهى ثابت القلب والقدم وكلنا يتذكر روحه المرحه وخفة ظله في قصيدته الساخرة الشهيرة " الشاعر المعلم " التي عارض بها احمد شوقي التي يقول فيها : شوقي يقول ومادرى بمصيبتي قم للمعلم وفهِ التبجيلا كاد المعلم ان يكون رسولا لو جرب التعليم شوقي ساعة لقضى الحياة شقاوة وحمولا حسب المعلم غمة وكآبة مرأى " الدفاتر " بكرة واصيلا وفي هذه العجالة التي ابحر في العالم الشعري لابراهيم طوقان ولن اتوغل في مسيرة حياته الممزوجة بالالم والشعر ألم المرض الذي اسلمه للموت مبكراً في الربيع السادس والثلاثين .. ولكن الذكرى المئوية لميلاده جعلتني استرجع واستعيد مقتطفات من السيرة الذاتية للراحلة الشاعرة " فدوى طوقان " الموسومة بـ " رحلة صعبة .. رحلة جبلية " التي تحدثت في متنها عن علاقتها بشقيقها " ابراهيم طوقان " تلك العلاقة الاخوية الرائعة التي دثرت أيام الشاعرة بالحنان والفرح وشحنت حياتها المعبأه بالقهر في سجن الحريم والتقاليد الجائره بالأمل والتحدي والكفاح حينما كشفت فدوى في سيرتها الذاتية عن صفحة قاسية كئيبة من حياتها هي في الواقع عهد الحريم إبان الحكم العثماني وما بعده وفدوى " عرفت هذا النوع من الحياة وتألمت كثيراً ) وكانت جريئة وصادقة في حديثها عن تلك المرحلة المظلمة التي تجعل الرجل السيد المطلق المستبد والمرأة عبداً لا إرادة له ولا حرية ولا كرامة ومن خلال حديثها عن نفسها وعن بيئتها الاولى تعرفنا على دور شقيقها ابراهيم طوقان في حياتها وداخل اسرته وكان حديثها عن بالغ التأثير والعذوبة وهي تصف انقاذه لها من ذلك الجو القاتم والكئيب الذي سربل ايامها بالسجن والعزلة والوحشة بعد عودته من بيروت عام 1929م حاملاً شهادته من الجامعة الامريكية ببيروت ليستقربه المقام في نابلس ويمارس مهنة التدريس في " مدرسة النجاح الوطنية " . تصف فدوى طوقان ذلك الحدث السعيد عن لقائها بشقيقها طوقان قائله : " مع وجه ابراهيم أشرق وجه الله على حياتي " وكانت عاطفة حبي له قد تكونت من تجمع عدة انفعالات طفولية سعيدة كان هو سببها وباعثها . اول هدية تلقيتها في صغري كانت منه اول سفر من اسفار حياتي كان برفقته . كان هو الوحيد الذي ملأ الفراغ النفسي الذي عانت منه الشاعره في طفولتها التي كانت تبحث عن أب آخر يحتضنها بصورة أفضل وأجمل " وجدت الاب الضائع مع الهدية الاولى والقبلة الاولى التي رافقتها كان تعامله معي يعطيني انطباعاً بأنه معني بإسعادي واشاعة الفرح في قلبي لا سيما حين كان يصطحبني في مشاويره الى سفح جبل " عيبال " كان يأخذ مجلسه على واحدة من الصخور الكلسية ويسمح لي بالانطلاق بينما ينصرف هو الى التأمل اما انا فكنت امضي الى الشعب القريبه واقفز كالمعزى من صخره الى صخره .. وبين حين واخر كان ابراهيم يلتفت ويوصيني بألا أوغل بعيداً عنه كان فرحي بتلك المغامرات الصغيرة يتميز بخلوه من توقع عقاب الاهل فلقد كان الخوف ينغص علي دائماً افراحي الصغيرة اما مع "ابراهيم" فقد كنت اشعر بالتحرر من كل تلك المنغصات ... وعلى غير عادة رجال الاسرة تقول فدوى كان ابراهيم " يجلس معنا نحن امة وشقيقاته يبادلنا الحديث ويحكي لنا عما جرى ويجري من شؤونه الخاصة وبعض الشؤون العامة . كما يروي لنا الطرائف الادبية والتاريخية مما يطالعه في كتاب " الاغاني " لابي فرج الاصفهاني او " العقد الفريد " او كتاب " الحيوان" للجاحظ وكان بالنسبة لنا ينبوع حب وحنان يغدق علينا من عطائه ويمنحنا الكثير من وقته ومساعدته اذا لزمت المساعدة " .تشبت قلب فدوى بشقيقها ابراهيم طوقان كما تقول " تشبت الغريق بمركب الانقاذ " . وهذا الشعور بالتعلق الكبير تجاه شقيقها جعلها تخاف عليه من الاذى والمرض واصبح همها وشغلها الشاغل في خدمته وتحضير شؤونه من دون اخواتها جميعاً .. وحتى بلغ بها الخوف عليه ان تنظف الارض وتلتقط ما يلقي به أطفال الدار من بذور البرتقال او قشوره خوفاً من ان يطأها " ابراهيم " فتنزلق قدمه ويسقط فيصيبه الاذى.لقد اصبح ابراهيم طوقان بالنسبة لها كما تقول فدوى الهواء الذي تتنفسه رئتاها .. هواء الصحة النفسية وكانت يد ابراهيم هي " حبل السلامة الذي تدلى وانتشلها من بئر نفسي الموحشه المكتنفة بالظلام من تلك الفترة القاسية من مراهقتي .. "