من البديهي انه عندما تقبل اية حركة سياسية الاشتراك في العمل السياسي، فإنها بذلك تنتقل من مرحلة الفكر والتنظير الى مرحلة الممارسة العملية والتطبيق، وبالتالي قبلت بقواعد الممارسة السياسية وبمنطق اللعبة الديمقراطية. وهذا يعني في ما يعني قيامها بمسألة النقد الذاتي لتجاربها، واعادة النظر في طروحاتها وبرامجها على ضوء المتغيرات المحلية والاقليمية والعالمية، وهي قد تجد صعوبة في ذلك للتناقض الذي تعيشه. ولكن هذه ضريبة لا بد من دفعها لمن اراد التحول الى السياسة وطالما ان السلطة في يدك، فإن المراجعة هي الطريقة لانقاذك من تكرار الاخطاء، وتعفيك من القاء اللوم على العوامل الخارجية. الآن، ومنذ قدوم حركة حماس للسلطة، وتوليها زمام الحكومة تحول المشهد الفلسطيني الى حالة من التوتر والتراشق اللفظي فضلا عن العسكري، فتبلورت صورة بانورامية تكشف عن ان ثمة استقطابا حادا بين فتح وحماس. باتت خلافات المصالح وازدواج السلطة اشارات تنذر بدخول الفصائل الفلسطينية الى المنطقة الحمراء او بكلمة اكثر وضوحا الحرب الاهلية. ولعل المتابع للوضع الفلسطيني الداخلي يلحظ عدم وجود نقاط التقاء رغم التطمينات والتصريحات من كلا الطرفين، حيث تغلبت المصالح الفئوية والحزبية على المصالح الوطنية العليا وكأنما هناك تنازع قوي على استحواذ السلطة. يأتي هذا السيناريو المخجل في وقت يعاني فيه الفلسطينيون من عزلة دولية خانقة وحالة من الفلتان الامني وجمود في المفاوضات. ولذا لا غرابة ان المستفيد لما يحدث في الاراضي الفلسطينية هو اسرائيل، وكان من الطبيعي لرئيس الوزراء الاسرائيلي اولمرت الذي استقبل استقبال الفاتحين في الولايات المتحدة ان يستغل الاحداث فيهمس متذرعا في اذن الرئيس الاميركي بأنه لا جدوى من عملية السلام، طالما لا يوجد شريك، كما ان رئيس السلطة الفلسطينية لم يعد يمثل الشعب الفلسطيني. وبالتالي فان على اميركا دعم خطته الاحادية الانفصالية والتي كان قد بدأها معلمه واستاذه شارون. والحقيقة انني بمقدار ما اجد صعوبة في فهم تعنت حماس وتصعيدها الدائم في ما يتعلق بالصلاحيات والعلاقة مع اسرائيل، لا استطيع استيعاب عجز رئيس السلطة على تولي مسؤولياته المدعومة بالدستور والمجتمع الدولي. وحتى نكون اكثر موضوعية، نقول ان الخلل جاء نتيجة لاخطاء متراكمة دفعت ضريبتها فتح في الانتخابات، فنجاح حماس لم يكن بالضرورة استنادا الى برنامجها الانتخابي، بقدر من ان الفساد الذي استشرى في الجسد الفتحاوي سبب لأن يبحث الناخب عن بديل! تقول المادة 13 من ميثاق حماس "تتعارض المبادرات وما يسمى بالحلول السلمية والمؤتمرات الدولية لحل القضية الفلسطينية مع عقيدة حركة المقاومة الاسلامية، فالتفريط في اي جزء من فلسطين تفريط في جزء من الدين". وعندما نتأمل هذا النص، نجد ان الحركة ادلجت الدين ليكون حلا للازمة او ما يسمى بنظرية التحدي والاستجابة، فهي تنتمي الى حركات الاسلام السياسي، وتمارس الآن فعلا سياسيا، فالسؤال المطروح هنا: هل رؤيتها السياسية في تحديد المصلحة يأخذ في الاعتبار الوضع الداخلي والاقليمي والدولي؟! وهنا يحضرني ما قاله احد نواب البرلمان اللبناني، وهو من "حزب الله"، عندما سئل عن عدم استخدامهم للخطاب العقائدي في البرلمان وما هي طريقة فهمهم لصيغة ما يسمى في الفقه (المصالح والمفاسد)، قال "الدخول في البرلمان يخضع لرؤيتنا السياسية في تحديد المصلحة ولا يخضع من الناحية السياسية الى المواقف المبدئية لأن المواقف المبدئية حركة في الفكر والعقيدة، وليس في الواقع، فالاولى (المواقف المبدئية) غير خاضعة للظروف، والثانية (الرؤية السياسية) خاضعة للظروف، خاضعة للمصالح والمفاسد. ان تحديد المصلحة في النهاية هو عملية بشرية وليس عملية مبدأ. يعني ان الحركة الاسلامية هي التي تحدد المصلحة او المفسدة في الواقع وليس الموقف المبدئي". على ان ما قيل سابقا رؤية مستنيرة تحتاج الى اجتهادات عميقة وشجاعة لكي نتجنب اي صدام ما بين الثوابت ومتطلبات العصر وان كان هذا ليس مثار نقاشنا هنا على اي حال. صفوة القول ان حركة حماس اصولية في اسسها النظرية والفكرية ولكنها ذات منحى سياسي بحيث جعل من الجوانب الاخرى من ثقافية ودينية وفكرية ادنى مرتبة، وهنا تكمن الاشكالية، حيث انها تدعي المرجعية الدينية وخطابها سياسي بحت. غير ان هذا لا يعني ان تسنمها السلطة غير مشروع، فهي جاءت عبر صناديق الاقتراع وانتخابات نزيهة وتأييد شعبي، ولكن هل هي تستحق فعلا موقعها الجديد؟! الاجابة تكمن في ممارستها العملية والواقعية، فالمشروع والبرنامج السياسي شيء، وممارسة الفعل السياسي شيء آخر. وعند المضي الى المزيد من المكاشفة، فإن البعض يرى ان الحركات الاسلامية (السياسية) تعاني من ضآلة المنتج الفكري، مقارنة بالانتشار الشعبي، وهذا يتضح امام تحدي الممارسة السياسية، حيث تتطلب اتخاذ مواقف تفصح عن نفسها لتؤكد نجاحهم من فشلهم على ارض الواقع! وبالعودة الى الملف الفلسطيني، يطرح البعض ضرورة وجود قوات دولية في الضفة الغربية وغزة لفرض الحل السلمي على الاسرائيليين والفلسطينيين، غير ان ما اخشاه ان نضطر لدعوة هكذا قوات للفصل بين ميليشيات فتح وحماس، فالمشهد ينذر ببوادر حرب اهلية وان جو الاقتتال قد حان. ان اسلوب حكومة حماس يعقد من الوضع القائم، ويجعل السلطة الفلسطينية برمتها في مأزق. ان تنصل حماس من المواثيق والمعاهدات الدولية والاتفاقيات الثنائية هو اول رسوب في العمل السياسي، فضلا عن ان العرب التزموا بمبدأ السلام منذ عام 1996، وتبنوا مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز عام 2001، لتكون الركيزة الاساسية في انهاء الصراع العربي ـ الاسرائيلي، فهل تريد حماس من العرب ان يلغوا مبادراتهم والتزاماتهم ومعاداتهم من اجل طروحات غير واقعية ولا منطقية، لينتهي المطاف بتجويع الشعب الفلسطيني وجمود المفاوضات وتلاشي خارطة الطريق؟! ان حكومة حماس معنية اليوم اكثر من اي وقت مضى، بأن تراجع طروحاتها وتبحث عن المشترك، وترتهن للعقلانية والبراجماتية، وثمة فارق بين الطرح الدعوي والطرح السياسي، وذلك لأن ساحة العمل السياسي لها منطقها الذي تفرضه على اية قوة سياسية. وطالما ان الوضع القائم الراهن هو عبارة عن انسداد سياسي ومعاناة من حصار اسرائيلي وقصف وعدوان فان هكذا حالا يدفع الفلسطينيين الى الاستشعار بمستوى المسؤولية والمحافظة على المصالح العليا والوصول الى صيغ توافقية حتى لا تعطي الفرصة لمن يريد ان يصطاد في الماء العكر. ان على حماس اعادة التفكير في السلطة وممارستها على المستوى النظري والعملي وفي النطاق المحلي والاقليمي والدولي لأن عقلنة السياسة، وهي فن الممكن، هو المطلوب من اجل ممارسة واعية وواقعية تغلب المصالح العليا للشعب الفلسطيني، وهو ما نرجوه الآن بالفعل!!
حماس.. المصالح والآيديولوجيا
أخبار متعلقة