الخلود المادي immortility أو الحياة الأبدية
د. هيا إبراهيم الجوهرشدني ما قرأته في إحدى الصحف عن تجميد الدماغ في محاولة للبحث عن الخلود، ورغم أن موضوع البحث عن الخلود قديم جدا، إلا أن كل الأديان تنكره وتؤمن بالخلود المعنوي، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، علم ينتفع به، وصدقة جارية، وولد صالح يدعو له)، والبحث المستمر عن الخلود المادي immortility أو الحياة الأبدية له تاريخ طويل، فمن ملحمة الملك جلجامش الذي كان جزء منه بشريا وأحس أنه قد يأتي يوم ويموت فيه بعدما رأى صديقه (أنكيدو) يموت أمام عينيه ويأكله الدود لذلك ترك ملكه وهام على وجهه في البراري لمحاولة إيجاد بشر خالد (وعندما وجده كما تقول الرواية) اشترط عليه ليحصل على الخلود أن يبقى متيقظا ستة أيام وثماني ليال، لكنه لم يستطع، فدلته زوجة (أوتنابشتم) على عشبة الخلود يجدها في بحر دلمون، لكنه فقدها قبل أن يصل إلى مملكته ويموت)؛ إلى زمن البحث عن إكسير الحياة أو حجر الفلاسفة الذي لم ولن يجدوه. نؤمن جميعنا أن الخلود صفة من صفات المولى ـ عز وجل، لكن يبقى حلم البحث عنه لدى الكثير حتى يومنا هذا، فبعضهم لا يؤمن بالبعث ويعزّ عليه أن تكون نهايته الموت، وبعضهم يؤمن بالبعث لكنه يود أن يبقى خالدا هربا من مصيره بعد الموت يقول ـ سبحانه وتعالى ـ “يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب”، الفراعنة مثلا كانوا يؤمنون بالبعث لذلك كانوا يدفنون ممتلكات الشخص معه حتى يجدها عندما يعود إلى الحياة، ويبقى طول العمر مسألة فردية لا تفيد البشرية بشيء، فالشيخوخة عبء على المجتمعات، لذلك كان من حكمة الله ـ سبحانه وتعالى ـ تجديد الحياة كل فترة وهذا يسري على جميع الكائنات. توصل العلماء المتخصصون في دراسة الخلايا والأنسجة إلى أن للخلية ساعة بيولوجية (تختلف عن الساعة البيولوجية المعروفة) تدق 50 دقة ثم تتوقف وتهرم تدريجيا، وهي عملية بطيئة، ولكن إطالتها تصيب الإنسان بالضعف والهزال يتبعه موت لا محالة. فماذا تعني ساعة الخلية البيولوجية؟ تعني أن الخلية الملقحة هي بداية كل مخلوق، ولكي ينشأ منها ذلك المخلوق لا بد أن تنقسم إلى عدد محدود من الانقسامات في زمن محدود، فعدد الانقسامات لخلية طفل مثلا أكثر منها لدى الشاب، ولدى الشاب أكثر من الشيخ الكبير، أي أن عدد الانقسامات يقل مع تقدم العمر، ولكي نطيل عمر الإنسان لا بد أن نجعل هذه الساعة تنقسم أو تدق مئات المرات بدلا من 50!! ولكم أن تتخيلوا حجم هذا الكائن الناتج عن آلاف الانقسامات، حتما سيكون حجمه مروعا يقارب الديناصورات، فكيف سنطعم ونعتني بإنسان بهذا الحجم؟ لذلك فالعلماء الحقيقيون لا يفكرون في زيادة أعباء الحياة بل في تبسيطها ولننظر إلى حجم الأجهزة الإلكترونية قبل 50 سنة وحجمها الآن. وفي بحثهم المستمر عن الخلود ظهرت فكرة التبريد الشديد أو التجميد cryogenic ومن ثم الإنعاش، بعد عام 1861م، عندما قام المؤلف الفرنسي إدموند أباوت بنشر قصة “الرجل ذو الإذن المكسورة”، وهي رواية عن عالم يجمد شخصا ثم ينعشه فيما بعد عندما يتوافر علاج لمرضه. ومع الوقت أصبح جزء من هذا الخيال العلمي حقيقة، فبواسطة هذه الطريقة تم تجميد الخلايا والأنسجة الرقيقة والبويضات والحيوانات المنوية وأنشئت لها بنوك خاصة، أما أن يجمد إنسان كامل قبل وفاته إكلينيكيا بدقائق أو بعد وفاته فهذا ما اعتبره رئيس جمعية التبريد (جريمة قتل)، فقد نجحت عملية التبريد على كائنات صغيرة غير معقدة مثل الإنسان واستفيد منها طبيا وهي تشبه عملية البيات الشتوي لدى بعض الحيوانات. اليوم في أمريكا هناك مؤسسات لتجميد البشر ومئات من الجثث المجمدة في النيتروجين السائل (الأزوت) في درجة حرارة 197 درجة مئوية تحت الصفر داخل كبسولات تكلف الواحدة منها 40 ألف دولار للجسم الكامل وعشرة آلاف للدماغ فقط، حيث ينقل بعد عشرات السنين إلى جسم شخص آخر ليتمكن الأول من العيش!! وأول جثة مجمدة هي لأستاذ جامعي في علم النفس (دكتور جيمس بدفورد) أصيب بسرطان ويأمل إنعاشه في القرن القادم ليجد العلاج. وختاما نقول: إن لله سننا في خلقه والعبث بها يخل بنظام الكون ولكل زمان ناسه، فنحن الآن بالكاد نستطيع أن نتعايش مع أبنائنا وفارق العمر بسيط فما بالك عندما تفرقنا عمن حولنا مئات السنين؟