"يا لعدالة السّماء فيك يا أمريكا"، قالها المعلّق الرّياضي وهو لا يكاد يصدّق أنّ ثمّة من يهزم أميركا، الماسكة برقاب السّياسة الدّوليّة، حين رفض الحكم الدّولي احتساب هدف للولايات المتّحدة الأميركيّة في مرمى إيطاليا بسبب وقوع اللاعب الأميركي في فخ التسلّل، في المباراة التي جمعت بينهما قبل أسبوع. لم يتمالك نفسه ذلك المعلّّق الظّريف فهلّل للهزيمة الأميركيّة، ولم تفته الإشارة إلى أنّ ثمّة شعوب مقهورة "الليلة"، ستتاعطف حتماً مع إيطاليا، في مباراتها مع الدّولة التي قهرت معظم شعوب الأرض، بحسب تعبيره.وحين تنتصر الرّياضة على السّياسة، يمكنك أن تتخيّل أنّ ثمّة من يهزم أميركا، ولك أنّ تتخيّل أيضاً، ردّة فعل كوندوليزا، التي أراحت منها العالم ولو لست ساعات، هي مجمل ما لعبته بلادها في المونديال، فقد نقلت نشرات الأخبار عن كوندي، قلقها من خروج بلادها المبكّر من المونديال، ولم يتمكّن الشّامتون من كبت صرخة الانتصار، حين تخيّلوا وجه كوندي الممتقع، وهي تعيش لحظات الهزيمة.كنّا قد اعتقدنا لوهلة أنّ المونديال جاء ليريحنا من همّ السّياسة، إلى أن سمعنا ثمّة من يقول أنّ السّياسة تدخّلت لتضع منتخبين عربيين في مجموعة واحدة، لتزيد من عوامل التّفرقة بين الشّعوب العربيّة، وهذه التّكهنات لا مفر منها، في عالم عربي يعيش نظريّة المؤامرة، مع أنّه وكلمة حقّ تقال، أنّه لولا تواجد المنتخبين العربيين ضمن مجموعة واحدة، لما كان لكل منهما نصيب النّقطة الواحدة، ولكانا خرجا حتماً من دون أيّة نقاط.في لبنان، نسي النّاس هموم السّياسة الدّاخليّة، واحتلّت أعلام الدّول المشاركة مكان أعلام الأحزاب السّياسيّة التي رفعت على شرفات المنازل، وعلى السيّارات منذ أكثر من عام، لتجعلك تتمنّى لو أنّ كل أيّامنا "مونديال"، بعض المخلصين لأحزابهم، رفعوا علم منتخبهم المفضّل إلى جانب علمهم الحزبي، حين رفضوا أن يأخذوا إجازة قسريّة من السّياسة، في بلد يتنفّس سياسة على مدار العام.غير أنّ المناوشات بين أنصار 8 آذار و14 أذار لم تعد تهمّ اللبنانيين، خصوصاً حين يجتمع مناصرو حزبين متناحرين على حب فريق كرة القدم نفسه، ولم يعد السلاح الفلسطيني ضرورة ملحّة تنبغي معالجتها، أقلّه في هذه الفترة بالذّات، ولم تعد خلافات الرّئيسين لحّود والسّنيورة، وتنازعهما على تمثيل لبنان في الخارج ذات أهميّة، فثمّة لعبة تدير الرّؤوس ولا تأتي إلا مرّة واحدة كل أربع سنوات والباقي ينتظر.فما يزال اللبنانيون يذكرون صيف عام 1982م الدّامي، حين احتلت بيروت دبابات العدو الإسرائيلي، ولم يحرّك العالم العربي ساكناً، لأنّه كان منشغلاً بمتابعة المونديال. وفي كل مناسبة، تجد لبنانياً يذكّرك بأنّ بيروت بقيت منسيّة حتّى انتهاء المباريات، ليصحا العرب على تلك العاصمة بعد أن أصبحت ركاماً. والمفارقة أنّ اللبنانيّين أنفسهم كانوا يتابعون تلك المباريات في ملاجئهم، نقلاً عن التلفزيون القبرصي والمصري.لذا قد يأتيك من يحذّر من استغلال الدّول الكبرى للمونديال، لتنفيذ مشاريع سياسيّة ضدّ المنطقة، في وقت انصرف فيه العرب عن متابعة أخبار العراق وفلسطين، وكادوا ينسون أنّ الزرقاوي قتل، وأنّ ثمّة خليفة له يهدّد ويتوعّد.قد يبرّر البعض التّراخي العربي بالقول أنها استراحة قصيرة من عناء السّياسة، غير أنّ السّياسة ما تلبث أن تدخل في خيارات الجماهير العربيّة، حين يقرّرون أن يشجّعوا إيطاليا عندما تلعب مع الولايات المتّحدة، إلى حين انتهاء المباراة، ليعود كل مشجّع إلى التهليل لفريقه المفضّل.في ضاحية بيروت الجنوبيّة، حيث القاعدة الشعبيّة لحزب الله، تجد إعلام إيران ترفرف إلى جانب أعلام المنتخبات المشاركة، مع يقين معظم مشجّعي الفريق الإيراني، أنّ حظوظه في الفوز قليلة إن لم تكن شبه معدومة، وما يزال اللبنانيون يذكرون حين لعبت إيران ضمن مجموعة واحدة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة، في مونديال 98، حيث فرغت الطرقات من المارة، ليصطف اللبنانيون في فريقين أحدهما يشجع إيران والآخر الولايات المتّحدة، ولكل منهما أسبابه السّياسيّة المقنعة، غير أنّ ما لم يكن مقنعاً حينها، هو أداء الفريقين الرّياضي.إنّها إحدى مفارقات المونديال، فحين فشل المغرب في التأهّل إلى الدّور الثّاني في مونديال 98، بسبب الفارق في مجموع النّقاط، بعد خسارة البرازيل أمام النّروج في مباراة لم تقنع حتّى مشجّعي الفريق النّروجي، كتبت الصّحف العربيّة أنّ البرازيل اتّفقت مع المجموعة على إقصاء المغرب، وقامت قيامة العرب على فريق السامبا، وحين فازت فرنسا بالكأس في المونديال نفسه، وصفت الصحف العربيّة نفسها اللاعب الفرنسي من أصل جزائري زين الدين زيدان ب"العربي الذي أهدى فرنسا فوزاً غالياً".ومن يدري ما قد يحمله هذا المونديال من فضائح خصوصاً أنّه احتوى على أكبر عدد من الأخطاء التحكيميّة، بحسب المراقبين، وأياً تكن النّتيجة، قد تجد من يقول أنّ ثمّة تلاعباً في النتيجة، وأنّ السياسة والصفقات تتحكّم بهويّة حامل الكأس.ومهما تكن تلك الفضائح، تبقى أرحم وأهون من الدّخول في تفاصيل السياسة اللبنانيّة، التي جاء مونديال ألمانيا ليريحنا من همّها، ويجعلنا نتمنى حقاً لو أنّ كل أيّامنا مونديال.
أخبار متعلقة