انتشار الأغنية الحضرمية في الخليج والجزيرة (1-2)
الإنتشار الكبير للأغنية الحضرمية والذيوع السريع للأغنية المحضارية حيثيات وعوامل كثيرة جديرة بتسليط الأضواء حولها انصافاً للحق والتاريخ وحتى لا نغمط احداً حقاً ساتحدث في البدء عن علاقة أبناء حضرموت بالبحر وخاصة أبناء الشريط الساحلي ثم عن مهاجرهم في العصرين الوسيط والحديث.أرتبط أبناء حضرموت وخاصة أبناء المدن الساحلية بروم، المكلا، روكب، الشحر، الحامي، الديس الشرقية، قصيعر، الريد الشرقية أرتباطاً وثيقاً وتنوعت خدماتهم فيه من عهود قديمة وولع بعض الاثرياء منهم وتملكوا الكثير من السفن الخشبية الشراعية وبعض الميسورين اقتنوا قوارب اصطياد (صنابيق) أما الشريحة الواسعة منهم فيملكون المئات من القوارب الصغيرة (هوري) وأشتهر كثير منهم في الأعمال البحرية من ربابنة ونواخذة وحكام بحر.. وحدد المؤرخ بامطرف قوام أسطولهم البحري في النصف الأول من القرن الميلادي المنصرم بخمسين سفينة شراعية تعمل في النشاط التجاري تجوب أعالي البحار في رحلات منتظمة الى الهند، أفريقيا، البحرين، الصومال، دبي، الكويت، البصرة، ظفار.. اما بقية السكان في هذه المدن الساحلية فكانت مهنهم وفقاً للظروف المعيشية آنذاك وفي مجالات مختلفة كالزراعة واعمال البناء والحرف والمهن الأخرى وآخرون فضلوا الاغتراب يتنقلون من مهجر الى مهجر اسوة باخوتهم من أبناء حضرموت مع مطلع القرن الميلادي المنصرم بدأت المهاجر توسد ابوابها في وجه القادمين اليها من حضرموت حيث بدأت سلطاتها تضع العراقيل لمنع الهجرة والحد منها للهند، والسودان، وبعض الدول الافريقية.. وغير أبناء حضرموت وجهتهم للهجرة الى بلدان الجزيرة والخليج والكويت والبحرين تزامن ذلك مع ظهور النفط في بعض البلدان وكانت اجراءات السفر اليها ميسرة كما وصف لي بعض من عايشها.. إذ يستطيع المسافر من حضرموت المغادر على أي سفينة شراعية راسية في النقاط الجمركية مثل بروم، أو الحامي أو القرن او قصيعر او الريدة او بباخرة أو بالسفينة من ميناء الشحر او المكلا ويمكن القول ان حضرموت الساحلية بهذه النقاط الجمركية الخمس + ميناء المكلا والشحر تمثل منطقة حرة غير معلنة.ومع مرور الأيام لم يقو الاسطول البحري الحضرمي على المنافسة امام البواخر الحديثة عابرات المحيطات ولكنه استمر حتى أوائل الستينيات وبنشاط ملحوظ وكسب رجاله علاقات حميمة مع نظائرهم من ربابنة ونواخيذ في دول الجوار.في بداية الأربعينيات اهتمت الدولة القعيطية كثيراً بمدينة المكلا التي اكتظت بالسكان من الريف ومن خارج حضرموت ومتد عمرانها وأسست أحياء جديدة وأصدرت الدولة العديد من الأنظمة والقوانين التي تنظم حياة المجتمع كما تولت رسمياً تسيير جمرك والشحر ورفدت الميناء الرئيس بالخدمات والكوادر الضريبية وافتتحت في هذه الفترة (5) خمسة مكاتب جمركية هي جمرك بروم جمرك الحامي جمرك القرن الديس الشرقية، جمرك قصيعر، جمرك الريدة الشرقية, وظل جمرك الشحر عاملاً ونشطت الحركة التجارية بالمكلا بحكم تمركز نشاط معظم الاثرياء بها فقوة سوقها رغب الغير بارتياده من حيث وفرة المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية والتسهيلات الكبيرة التي يقدمها جمرك وميناء المكلا وكذا بقية النقاط كل ذلك دعا ملاك وربابنة ونواخيذ السفن الخشبية المتطورة التي يملكها أبناء الكويت، البحرين ظفار دبي إلى ارتياد ميناء المكلا بانتظام حاملين البضائع والارزاق المختلفة من الهند والبحرين والبصرة وغيرها من المهاجر للتسويق في المكلا.. ولتعود السفن شاحنة ببضائع وسلع من المكلا مثل النورة المكلاوية، الاسماك المجففة، الاسمدة الطبيعية، التمباك بمختلف الانواع، الليم المجفف، الحلويات إلى جانب المواد الغذائية والاقمشة والكماليات التي يكتظبها السوق.واعتبرت المكلا حينئذ سوق أبناء الخليج والكويت والبحرين والبصرة وأبناء عمان لوفرة البضائع والمواد والسلع الاستهلاكية ووجود المقايضة في سوقها كونوا معاملات وعلاقات تجارية مع نظرائهم هناك وبحكم تواجدهم المستمر سواء في المكلا أو الشحر أو أي منطقة جمركية على امتداد الشريط الساحلي توطدت العلاقات الشخصية وتكونت الصداقات الحميمة بينهم وبين أبناء هذه البلدان حتى أرتقت الى المصاهرة .. يقول الأخ عبدالحبيب نصيب حيابك (90) عاماً عاش فترة شبابه بالشحر: شاهدت بالشحر فترة الأربعينيات الى الستينيات كثيراً من ربابنة ونواخيذ تلك البلدان يرتادون ميناء الشحر لاغراض تجارية كانوا يتواجدون مع بحارتهم في مقهى مبارك بارامي يقع في عمارة آل معوضة الكائن بالسوق الرئيسي بالشحر ويحضرون معنا ليالي السمر والطرب الخاصة وافراح الزواج التي تقام كالعدة والشبواني والغية وشرح الزربادي وشاهدت في تلك الفترة بعض التجار الكويتيين ينزلون في بيت المرحوم علي ابوبكر بامعيبد بالشحر مثل آل معيوف وآل قطامي وخالد عبداللطيف وفي الستينيات كنا نشاهدهم في المكلا يحضرون الحفلات الفنية (المخادر) والألعاب والرقصات المختلفة وكثيرة هي السهرات الفنية التي يحييها الموسيقار الراحل محمد جمعة خان على ظهر السفن الخشبية التابعة لهم من خلال كل ذلك أدركنا اعجابهم وولعهم بالاغنية الحضرمية وتذوقهم لها حتى شاعت في بلدانهم. ومن بين الليالي لتي نوهت إليها الشهرة أقيمت على ظهر البوم الكويتي الذي يملكه غانم بن عثمان أواخر الخمسينيات أشار إلى ذلك فضل الأمين في مؤلفه (محمد جمعة خان فنان اليمن وشبه الجزيرة) ولا ينسى الدور الذي قام به البحارة الحضارم للترويج للأغنية الحضرمية عندما كان لسفنهم نشاط بحري الى تلك البلدان.كما قام بالدور نفسه البحارة الخليجيون والكويتيون أثناء ترددهم على ميناء المكلا للتجارة ومعروف للجميع ما يصاحب تلك الرحالات البحرية من أغاني ومواويل ورقصات ومساجلات تنسيهم مشاق السفر ومخاطر البحر فتأثروا كثيراً بالأغنية الحضرمية.ويكفي ان تعلم ان فنان الكويت الأول عبدالله الفرج تتلمذ على يد مطرب حضرموت الأول سلطان صالح بن الشيخ علي بن هرهرة مؤسس أول تخت موسيقي بحضرموت. وخلال هذه الفترة نشطت الحياة وازدهر النشاط التجاري تحديداً.وتواجدت في المكلا الكثير من المعارض التي تقوم ببيع المسجلات المختلفة والراديوهات والأدوات الموسيقية وصناديق الطرب والاسطوانات المختلفة والبكرات الفلس والقرندن وكان ملحوظاً في تلك الفترة من ضمن الهدايا التي كانت ترسل إلى المهاجر للمقيمين هناك الاسطوانات الشمعية والحجرية لاغاني طبعت حديثاً أو ارسال اشرطة بها تسجيلات لحفل زواج اوحفل خاص اوتسجيل لرقصات العدة او الشبواني اوالهبيش أو أغاني جديدة غنت لأولمرة هنا، وبديهي ان تنتشر تلك التسجيلات في تلك المهاجر وتصل سريعاً الى مسامع اخوتنا أبناء هذه البلدان وخاصة المعمرون منهم الذيم سمعوها ورعوها وأطربوا بها من قبل تذكرهم بأيام خلت.. تعكس تخيلات الماضي على مرآة الحاضر.. تحمل لهم هذه الأغاني الكلمة الشريفة الهادفة, واللحن الجميل والأداء الممتع هذا العامل الأول في نظري لعملية الانتشار، أما العامل الثاني الذي ساعد على نشر الأغنية الحضرمية فتمثل في دور الشركات والوكالات التجارية المتواجدة في عدن في تلك الفترة والتي قامت بتسجيل معظم الأغاني السائدة في ذلك الوقت (الاربعينيات) واستمرت وهي:1ـ شركة اديون التي أنزلت الى الاسواق أولى طباعتها من الاسطوانات الحجرية عام 1939م.2ـ شركة بارلولومون الألمانية.3ـ شركة جعفر فون كانت تسجل اسطوانات في عدن وتطبعها في بريطانيا.4ـ شركة التاج العدني.5ـ شركة طه فون.6ـ شركة عزعزي فون.7ـ شركة شبيب فون.8ـ شركة كايا فون.9ـ مؤسسة مستر حمود.10ـ مؤسسة عيدروس الحامد.هذه الشركات أسهمت بجهد لا ينسى في حفظ وتوثيق بعض التراث الغنائي ونشر الكثير من الاغاني خارج الوطن اليمني فعرفت أغانينا الصنعانية واللحجية واليافعية والحضرمية من خلال الاسطوانات الحجرية والشمعية بمختلف الاحجام التي تباع في الأسواق أو ترسل كهدايا.. وابرز من سجلت لهم ذلك الحين على سبيل المثال:الموسيقار محمد جمعة خان وطبعت له 110 أسطوانات، الفنان عمر باحويرث، الفنان شيخ البار، علي أبوبكر باشراحيل، الفنان احمد عبيد قعطبي، الفنان عوض عبدالله المسلمي، الفنان عمر محفوظ غابة، الفنان علي بنقالة، الفنان يسلم دحي وغيرهم كثير.كما ساعدت إذاعة عدن في الترويج والتعريف بأغانينا اليمنية حيث وثقت لحشد من الفنانين كثيراً من الاغاني ابرزهم الموسيقار محمد جمعة خان وسجلت له وحده 10 أغاني كما سجلت لغيره.وللموسيقار محمد جمعة خان دور كبير لا يجحد في التعريف الواسع للأغنية الحضرمية ونشرها في البلدان العربية والافريقية التي زارها وهي: كينيا، ممباسا، نيروبي، جيبوتي، الحبشة، السعودية التي قضى بها عامين سجل خلالها الكثير من الأغاني واحيا العديد من حفلات الزواج وآخر رحلاته أوائل الستينيات الى الكويت سجل فيها لشركة أسطوانات فون الكويتية عدداً وافراً من الأغاني واحيا حفلات فنية هناك وفي تقديري ان الأثار التي تركتها هذه الزيارات في تلك البلدان وكذا الأعمال المؤلفة بواسطة شركات تسجيل الأسطوانات أو التي بلغتهم من طرق شتى سواء عبر جالياتنا أو عبر الأثير أو من خلال تصدير التسجيلات المتلاحقة كل ذلك في نظري كافياً بتعريف بالأغنية الحضرمية وكافي لتحقيق الانتشار لها، وعلى المستوى المحلي بحضرموت في هذه الفترة أسست الندوة الموسيقية الحضرمية عام 1960م التي تبنت قيام نهضة فنية حديثة في البلاد تهدف إلى تطوير الأغنية الحضرمية (موسيقى وغناء وشعر) وعلى مستوى الوادي (حضرموت) أطلعت الفرق الموسيقية بسيئون بدورها في نشر الأغنية في المهاجر الحضرمية أشهر تلك الفرق المعروفة السيد علي بنقالة والفرقةالموسيقية التي رأسها عام 1960م نادي الاحقاف بسيئون فلهؤلاء جهود ودور لا يمكن اغفاله.يتبع..