قصة قصيرة
كان ثلاثتهم يشربون الشاي في المقهى الصغيرة الواقعة بين المستشفى التي يعملون فيها والداخلية التي يسكنون بها ، يتحادثون ويضحكون بصخب كعادتهم قبيل أذان المغرب ثم يذهبون للصلاة في المسجد الواقع خلف المستشفى . كانت المستشفي تقع في قريةٍ صغيرةٍ في منتصف الطريق بين المدينتين الكبيرتين ، وبعد الصلاة دائماَ ما يذهبون إلى إحدى المدينتين ، يبقون فيها حتى منتصف الليل فيعودون أدراجهم إلى مسكنهم . كان يجلس بالقرب منهم شابٌ نحيل الجسم كئيب الوجه كالح النظرات يشرب الشاي بصمت وأمامه كأس ماءٍ بارد ، أشتد صخبهم وضجيجهم وضحكاتهم المرتفعة ، ولم يكن من ذلك الشاب الذي أنزعج منهم إلا أن يأخذ كأس الماء البارد ويقذف بما فيها على ظهر أحدهم ، نهض الشاب المبلل بفزعٍ بينما وقف زميلاه الآخران ينظران بدهشةٍ واستغراب إلى ذلك الكئيب الجالس دون أن يبدي بشيء ، كأنما الأمر لا يعنيه . اقترب الشاب المبلل منه مستوضحاً الأمر بهدوء : ـ ما الأمر يا سيدي ؟ لماذا فعلت ذلك ؟ . أجابه دون أن ينظر إليه وبصوتٍ يفتقر إلى الأدب وينم عن أنفةٍ وكبرياءٍ وتأفف : ـ أكره الإزعاج . سأله المبلل مستغرباً وبنفس هدوئه : ـ ومن أزعجك يا سيدي ؟ . ـ أنتم . ـ وبماذا أزعجناك ؟ . ـ أنتم أزعجتموني وكفى ... نظر الشاب المبلل إلى زميليه اللذين اقتربا منه ، متبادلاً معهما نظرات الدهشة والحيرة ، ثم سأله معتذراً ولا زال محتفظاً بنفس هدوئه : ـ المعذرة يا سيدي إن كنا قد أزعجناك دون قصد . ولكن ، ألم يكن من الأجدر بك أن تلفت انتباهنا إلى ذلك حتى نعتذر لك ونكف عن إزعاجك ؟ . رشف رشفةً صغيرةً بتأنٍ يثير الأعصاب ودون أن ينظر إليه قائلاً بنفس أسلوبه ذاك : ـ لقد فعلت ... ازدادت دهشة الشاب المبلل ، نظر إلى زميليه اللذين كانا يبادلانه دهشته وربما بشيءٍ من الاستنكار ، قال الشاب المبلل مُستَفَزاً وبنفس هدوئه الذي لم يفقده حتى الآن : ـ ولكنك فعلت ذلك بالماء على ظهري ، وأنت تعلم أن الجوَ باردٌ وقد يؤثر ذلك على صحتي و.... قاطعه بتعالٍ وتقززٍ وبنبرةٍ عدائيةٍ واضحةٍ وهو ينظر إليه لأول مرةٍ نظرةً يتطاير منها الشرر متجاهلاً ما قاله : ـ صوتك أنت بالذات لم يعجبنِ ...تخلى الشاب المبلل عن هدوئه هذه المرة ، رفع صوته وقد ظهر استنكاره واضحاً وكذا استياؤه البالغ: ـ مهما يكن يا عزيزي ، ولكن كان عليك أن تتصرف بطريقةٍ حضاريةٍ على الأقل .... قاطعه متبجحاً كأنما يهدده : ـ عليك أن تشكرني يا هذا ، لأنني لم أتصرف معك تصرفاً آخر ... قطب الشاب المبلل حاجبيه متسائلاً : ـ ماذا تقصد بالتصرف الآخر ؟ ! ـ لن يعجبك ... كان الشاب المبلل ، مفتول العضلات ، تبرز عضلاته بوضوحٍ من خلال ملابسه الضيقة ، مقارنةً بذلك الشاب كئيب الوجه نحيل الجسم ، التفت إلى زميليه ثم إليه مبتسماً ربما مشفقاً أو ساخراً أو ربما الاثنين معاً ، قال بصوتٍ عميقٍ وبنبرةٍ هادئةٍ تنم عن ثقةٍ راسخة : ـ اسمع يا سيدي ، لا يهمني تهديدك بشيء ، ولا تهمني تلك الطريقة أو ذلك التصرف الآخر الذي تهددني به ، فهو لا يخيفني ، ومهما كان ما تقصده ، عليك أن تعرف جيداً ، أنني أكره أن أمد يدي على أحد ، حتى ولو فعلت أنت ذلك ، ليس لضعفٍ أو خوف ، بل لأنني لا أحب أن ألحق الأذى بك أو بغيرك ، هل فهمت ؟ .ضرب الشاب النحيل الطاولة أمامه بكوب الشاي بقوةٍ حتى تطايرت أجزاؤه على أرض المقهى وتدفق الدم من يده ، صارخاً بعصبيةٍ وبأعلى صوته : ـ هل تهددني أنت أيها الـ ... لم يكمل ، كانت أنفاسه تتلاحق كأنما كان يجري من مكانٍ بعيد ، متجاهلاً تلك الدماء التي تنزف من يده ، مكتفياً بتكويرها بقوةٍ حتى يوقف النزيف . نظر إليه الشاب المبلل ملياً ..ابتسم وهو يهز رأسه : ـ أسمع يا سيدي ، إنني لا أهدد أحداً ، فأنت لا تعرفني ولا تعرف زميليَ ، فنحن .... قاطعه صارخاً بسخريةٍ لاذعةٍ وتهكم: ـ بل أعرف بأنكم حثالةٌ تعملون بمهنة النساء ، فأنتم كذلك ، ولستم رجالا ... تبادل الزملاء الثلاثة نظرات دهشةٍ واستغراب ، وابتسموا رغماً عنهم وهم يحركون رؤوسهم بشيءٍ من الاستهجان ثم نظر إليه الشاب المبلل قائلاً كأنما يعاتبه بإشفاق : ـ لا بأس يا سيدي ، سنحترم وجهة نظرك ، ولو أنها لا تهمنا ولا تعنينا إطلاقاً ، فمهنة التمريض التي تسخر منها ، هي مهنةٌ إنسانيةٌ نفخر بها ونعتز بمزاولتها وسوف تأتي إليً حتما كي أضمد لك جرحك النازف . حسناً . يكفي ذلك ، علينا أن نترك كل ذلك جانباً ، ( يسترق نظرةً خاطفةً إلى ساعة يده مستطرداً ) ونتحدث عما يعنينا الآن قبل أن يدركنا أذان صلاة المغرب ولنختصر المسألة كلها ، لقد اعتذرت لك عما بذر منا تجاهك دون قصد ، رغم أننا لم نعتدِ عليك ، بل أنت من فعل ذلك ، ولم يبق إلا أن تعتذر وننهي المو ....قاطعه صارخاً وهو يشير إليه بأصبعه بصلفٍ وسخريةٍ واحتقار : ـ ماذا ؟؟!! أعتذر ؟؟!! لماذا ؟! ولمن ؟؟!! لك أنت ؟؟!! ... لن اعتذر ، لست أنا من يفعل ذلك! ... ظهر الاستياء جلياً واضحاً على وجوه الزملاء الثلاثة ، هز المبلل رأسه بعدم رضا وبنبرةٍ كمن طفح به الكيل قائلاً : ـ أسمع يا سيدي ، لو أنك طلبت منا أن نكف عن إزعاجك كما تقول لفعلنا ، ولكنك عوضاً عن ذلك اعتديت عليَ دونما سبب ، ورغم ذلك ، عندما طلبت منك أن تعتذر رفضت ذلك بشدة ، فهذا أمرٌ غير مقبولٍ على الإطلاق ولا يمكن ... هوى بقبضته النازفة على الطاولة بقوةٍ ونهض من على كرسيه مزمجراً مقاطعاً وقد بلغ به الغضب مبلغاً لا يوصف متحدياً وبوقاحةٍ شديدة : ـ إنك لا تخيفني بتهديدك هذا ، فأنت لست برجلٍ لتفعل شيئاً ، إنني أتحداك يا نصف الرجل ، فإن كنت تعتقد بأنك رجلاً حقاً ، أو أنك حتى تنتمي إلى فئة الرجال ، أرني ماذا بيديك أن تفعل، فلا تغرك هذه العضلات فهي ليست سوى أورامٌ منتفخةٌ بسبب الخوف ، هيا ، أرني ما تستطيعه أو ما تجيد فعله . بهدوءٍ التفت إلى زميليه كأنما يعتذر لهما عما قرر فعله ، ثم التفت إلى الشاب النحيف كأنما يشعره بأنه قد قبل التحدي ، كان قد لمح كأس الماء على الطاولة حيثما كان يجلس مع زميليه وقد ظهر على وجهه العزم والتصميم الجاد وبصوتٍ عميق الدلالة ونبرةٍ هادئةٍ قال : ـ سأفعل ما فعلته أنت ، ولكن ، عليك أن تعرف جيداً ، أن هذا ليس ما أستطيع فعله ، لأنني أستطيع فعل ما لا يتخيله ذهنك الصغير ، بل هذا ما يمكنني أن أفعله وهو ما تستحقه كما أرى، فقط لنكون بذلك متعادلين . اختطف كأس الماء من خلفه وأفرغه في وجه الشاب النحيف ، وبحركةٍ سريعةٍ لم يتوقعها أحد ، بل لم يتخيلها أو حتى يفكر بها أحد ، أخرج الشاب النحيف من تحت قميصه مسدساً كان يحمله ، صوبه إلى رأس الشاب المبلل وأطلق رصاصتين ، فسقط على إثرها دون حراك ، في الوقت الذي انطلق فيه صوت المؤذن ، وبنفس حركته تلك وجه المسدس إلى صديقيه اللذين سمرهما الخوف والذهول مهدداً ومحذراً إن تحرك أحدهما ، ثم أعاد المسدس إلى حيث كان وأخرج من جيبه قطعة نقود تركها على الطاولة ، وبهدوءٍ ، كأنما شيئاً لم يحدث ، وخرج من المقهى ...