قـصــة قـصيرة
عبدالجبار ثابت الشهابي اليوم بالنسبة لـ "ياسمين" هو يوم مختلف بشمسه ، وتبسم وروده وازهاره.. بدفئه ولطف نسماته .. كل شيء بالنسبة لها اليوم اصبح معزوفة جميلة.. قريتها الصغيرة لوحة بالغة الجمال..ودت لوتقبل الزهور والورود والطرقات والاشجار والعصافير ودت لو تقبل الدنيا بما فيها .. لو تخرج الآن ترقص في طرق القرية بانطلاق..منذ ان تسلمت صباح هذا اليوم نبأ نجاحها بامتياز في الثانوية العامة عبر شبكة الانترنت عجزت الدنيا عن استيعاب فرحتها.. هاهي تنهض من فراشها للمرة العاشرة .. خطت خطوات متمايلة راقصة .. نظرت من الشباك .. تملكها احساس كما لو انها غدت فراشة تريد ان تطير في احضان الوادي المنبسط وبين وروده وازهاره وخضرته لكن كيف لها ان تعمل ذلك ؟ وماذا سيقول عليها الناس؟- سيقولون انني مجنونة!!قالت في نفسها ضحكت ثم اتجهت نحو شباك غرفتها .. أمسكت بالقضبان كانها تريد ان تنتزعها .. حدقت في الآفاق .. الصورة في عينيها تزداد جمالاً .. ثمة عصفورة صغيرة ترقص على اغصان شجرة قريبة وتعزف الحانها بحنان.-انها جميلة مثلي !!-لكنها طليقة.. تمرح في الآفاق .. لايقيدها شباك .. ولاتمنعها عادات وتقاليد .. يا لحظها الجميل..ثمة قرعات لطيفة على باب غرفتها .. تراجعت الى الخلف .. ثم التفتت نحو الباب .. فتحته بحركة خفيفة .. ابوها هو الطارق .. كان مبتسماً ابتسامة عريضة .. شعرت ان الدنيا اليوم توزع الافراح لكل طالب فرحة .. وتظلل الدنيا كلها بسعادة غامرة-مبروك عليك النجاح يا " ياسمين" وعقبى للدكتوراة !!قال ابوها وهو يحتضنها بحنان الابوة..- شكراً يا أبي !!ردت هي .. ثم طبعت قبلتين على خد ابيها ، واردفت :ربي لايحرمنا منك ياأحلى اب في الدنيا !!شكراً يا " ياسمين" !! هناك ضيوف ينتظرونك- من هم ؟-عمتك وابن عمتك الطبيب " عماد"- .... ؟- جاؤوا يهنئونك بالنجاح .. ارسلتهم جدتك وأمرتني بالتعاون معهم لتذهبي على وجه السرعة الى المدينة للالتحاق هذا العام بكلية الطب بعد أن علمت بنجاحك الباهر..-لكن يا أبي .. كيف نفترق ؟!- مصلحتك عند جدتك مقدمة .- وانت يا بابا؟-اسمعي الكلام مثلما انا اطيع مامتي.قال وهو ياخذها نحو الصالة حيث عمتها وابنها .. وكانت عمتها على الباب في الانتظار.-أهلاً .. أهلاً .. مبروك النجاح.. ما شاء الله .. تبارك الله.. والله عروسة يا ياسمين!!احتضنتها عمتها .. ضمتها الى صدرها .. تبادلتا القبلات ..-بقّي لنا يازينب والا كيف ياعماد !!- اوه .. مكانك غيور يا أحمد !!ضحك الجميع .. تبادلوا كلمات الترحيب والتهاني .. وكان عماد صامتاً مبتسماً ينظر في من حوله ثم يستقر نظره على شيء ما لم يدركه احد باستثناء ياسمين التي كانت تحاول اخفاء مفاتنها عنه بثيابها وجسد ابيها الضخم الحائل بينهما.- عفواً يا أحمد !!قالت زينب وهي تحاول اصلاح حال حجابها ، واضافت :- تعلم .. نحن في عجلة من امرنا .. وانت تعرف امي .. مانقدر على غضبها ..- طيب .. طيب .. ياسمين الآن ستجهز نفسها..التفت الى ابنته .. شعرت ياسمين ان الفرحة في قلبها تنزف الآن دماً .. اسودت الدنيا امام عينيها .. حاول والدها ان يهون عليها الحال .. التفتت اليه بعين دامعة .. قبلها على جبينها.. استأذنت ان تذهب الى غرفتها لتجهيز نفسها .. خيم صمت طويل لم يقطعه سوى وقع اقدام ياسمين وهي عائدة نهضت زينب وابنها الدكتور عماد..-ملي اتغدوا عندنا !!قال احمد وهو ينظر نحو ابنته التي ستغادرة لأول مرة في حياتها ..- امي ستكون قد امرت بتجهيز الغداء.. انت عارف .. مخالفتها مسألة صعبة !!- عارف يازينب .. عارف.قالها وهو يجر آهة طويلة .. ثم ودع الجميع كمن يودع روحه من جسده فيما كانت ياسمين تنظر الى أبيها وغرف منزلها بعينين دامعتين .. خرج الجميع الى السيارة المنتظرة والمتحفزة للعودة الى المدينة..كان النجاح الرفيع هو هم ياسمين هناك في كليتها .. اغلقت شبابيك غرفتها في بيت جدتها .. واغلقت اذنيها وعينيها الا عن العلم.. وعندما كان قلبها يختلس غفلة منها كانت هي حارس يقظ لامكان عنده للتهاون.مضت السنون مسرعة من عقد عمرها .. لكنها كانت ترى نجاحها المتواصل تعويضاً عن كل مايفوت .. لم تأبه لشيء حتى ابن عمتها الدكتور عماد.. مع انها كانت تشعر نحوه بشيء غير مألوف عندها .. كانت تنظر للأمام وتحلم بعودتها الى قريتها وحنان ابيها ..سهرت الليالي الطويلة .. ذرفت الدموع .. لكنها لم تنهزم .. لم تشك لأحد .. وعندما كرمتها كليتها بحصولها على شهادة البكالوريوس في الطب بتقدير رفيع ذرفت دموع الفرح من الاعماق ثم توجهت مسرعة الى قريتها ..شربت السيارة الطريق .. وعندما وصلت كان أبوها وجدتها وعمتها والدكتور عماد ينتظرونها على احر من الجمر..