مع الأحداث
للتربية وظيفتان متكاملتان أولهما تربية الفرد لذاته من جميع الوجوه لجسمية والعقلية والاخلاقية والروحية، وثانيها تلبية حاجات المجتمع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.لقد كان فلاسفتنا القدماء يقولون: إن العلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر، ولا قيمة للشجرة إلا إذا طاب جناها، وهذا يصدق على وظيفة التربية من جهة اعتبارها وسيلة لإعداد العالم العامل على تنمية المجتمع.إن المربي الذي يعنى بتنمية طاقات الفرد المبدعة كالاقتصادي الذي يعني بتنمية رؤوس الأموال المثمرة، ولا فرق بين المربي والاقتصادي إلا في شيء واحد، وهو أن الأول ينمي طاقات روحية والثاني ينمي طاقات مادية، ولا قيمة للطاقات المادية إلا إذ وضعت في يد الإنسان، فالإنسان إذن كل شيء، لايتم في الحياة أمر إلا على يديه، ولامعنى للتقدم التقني والازدهار الاقتصادي إلا إذا كانا نافعين له.وعلى ذلك فإن إهتمامنا بتأثير العوامل الاقتصادية في التربية لايعنى أننا نريد أن نزن الإنسان بميزان المادة، بل يعني أننا نريد أن نؤكد القيم التربوية ببنائها على الشروط الواقعية، ليست القيم الإنسانية مجردات عقلية لأصلة لها بالواقع،وإنما هي تركيب ذهني يجمع بين ما يتصوره الإنسان من المثل، وما تكشف عنه تجربته الواقعية من العناصر الحية.إن تجاهل هذه العناصر لاينمي التربية، كما أن جهل العامل بحركات الآلة الموضوعة بين يديه لايجعله سيدها، وليس في التخصص المهني الذي يتطلبه نمو الحياة الاقتصادية ما يخالف هذه الحقيقة، لأن التخصص المهني الصحيح يستند إلى الثقافة العامة، ويعمل على تنميتها، ويكشف فيها عن جوانب إنسانية جديدة، وقيم عقلية أصيلة، تنمي شخصية العامل وتزيد من تفتحه الفكري أو الروحي، وتبعثه على مجاوزة الواقع ومجاوزة ذاته.لقد آن للتربية أن تستبدل بمفاهيمها الجوفاء مفاهيم تجريبية، وأن تجعل أعدادها لشخصية الفرد مبنياً على الأسس النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي أدى إليها التطور.إن الفرد المتفتح الذهن يستطيع أن يغير نمط حياته في يسر، وأن يسهم في تنمية المجتمع من الناحيتين الثقافية والاقتصادية، فما بالك إذا كانت ممارسة العمل تفتح الذهن وتقوي الشعور بالذات، وتزيد القدرة على الاستمتاع بلذة الحياة، وفرق بين إنسان يعيش في بيداء الوهم، وإنسان يعيش في صميم المعركة، إن الذي يعيش في صميم المعركة أشد شعوراً بذاته الفاعلة من الذي يعيش في أطرافها.ونحن نرى أن تربية الفرد كاملة، توجب تعليمه عملاً مهنياً يصون كرامته وحريته، وينمي شخصيته ويجعله عضواً نافعاً للمجتمع، كما أن تعليمه إحدى المهن يوجب إعداده إعداداً ثقافياً عاماً يمكنه من معرفة ذاته ومن مجاوزة الواقع، فليس الإنسان الذي نريد اعداده آلة إنتاج فقط، وإنما هو نفس وعقل وإرادة ووجدان وخير للإنتاج الاقتصادي أن يكون العاملون فيه متكاملي الشخصية، متفتحي الأذهان، قادرين على التكيف، متصفين بالمرونة العقلية وبالقدرة على الإبداع، بدلاً من أن يكونوا آلات عمياء تنفذ حركات قسرية.إن وظيفة التربية إعداد شخصيات إنسانية تفهم عصرها ومجتمعها، وتدرك دورها الفعال في تطويره وإذا قيل أن المعاهد الثقافية لاتختلف عن المعامل الصناعية من حيث تقيدها بقانون العرض والطلب، وقواعد الإنتاج والاستهلاك لنا إن هذه المعاهد انشئت لاعداد الرجال، لا لإنتاج السلع التجارية.ومن شروط إعداد الرجال ان تكون تربيتهم كاملة أي أن تجمع بين اعدادهم النظري والعلمي، واعدادهم العملي والمهني، حتى يصبحوا قادرين على الاستمتاع بأوقات فراغهم من جهة، وعلى خدمة المجتمع وتنميته من جهة ثانية، ولما كنا نعيش اليوم في عالم متفجر، يتفجر فيه كل شيء تفجر السكان، وتفجر العلم والفن، وتفجر الصناعة والزراعة والتجارة والتكنولوجيا الفائقة التطور، فإن من شرط تربيتنا الحديثة أن تكون متفجرة، كالعالم الذي نعيش فيه، أي أن ننمي الشعور بالحرية والاستقلال والمسؤولية والقدرة على البحث والنقد والاختراع، وسبيل ذلك كله تغير تركيب المناهج، وتحسين طرق التدريس، والعناية بإعداد المعلمين اعداداً نفسياً وتربوياً واجتماعياً.الخلاصة، إن وظيفة التربية اعداد الفرد لذاته والمجاوزة ذاته في وقت واحد، واعداده لتلبية الحاجات الاجتماعية والاقتصادية الحاضرة، واعداده لمجاوزة هذه الحاجات إلى حاجات اسمى وافضل.ومعنى ذلك أن وظيفة التربية اعداد الإنسان لمواجهة ما ينتظره في المستقبل، لا الاقتصاد في اعداده على تزويده بالمعلومات التي انتقلت إليه من الماضي، إن طلاب معاهدنا الحاضرة يعيشون اليوم في القرن الواحد والعشرين، وعلينا أن نعدّهم للحياة لمواجهة ما ينتظره في المستقبل، لأن الحاضر ـ كما يقولون مثقل بالماضي، وممتلئ من المستقبل، وجماع ذلك كله أن تجمع التربية بين وظيفتين وهما تربية الشخصية الإنسانية لذاتها من جهة، وتربيتها للإسهام في التنمية الاجتماعية والاقتصادية من جهة ثانية، وهاتان الوظيفتان متكاملتان.