أضواء
الحديث عن إمكانية أن تضطلع دول مجلس التعاون الخليجي بدور مهم وريادي في إحداث نهوض ثقافي عربي، ليس سهلاً، كما كانت الحال مع الجانب الاقتصادي والسياسي والتعليمي.فالحديث عن الثقافة الخليجية أمر مختلف، ويتطلب في المقابل الحديث وبشكل عام، عن حال الثقافة العربية وأوضاعها الحالية، وذلك حتى تجيء الصورة أوضح في مدى استدراك مدى إمكانية حدوث حراك ثقافي في منطقة الخليج العربي. وهذا الأمر قد يتطلب أكثر من مقالة.الحديث عن الثقافة في الخليج العربي لا بد أن يأخذ في البدء بعداً تاريخياً، ولو بشكل موجز، لاستكشاف الواقع الثقافي فيها. فعلى الرغم من قلة المظاهر المدنية خلال الفترة التي سبقت اكتشاف الثروة النفطية، فإن معظم مدنها ومناطقها الرئيسة كانت على تفاعُل مستمر مع الحركة الثقافية العربية وتطوراتها. فقد تأثرت المنطقة بحركة الإصلاح الديني، وقام عدد من رموزها المعروفين بزيارتها، مثل جمال الدين الأفغاني وعبدالعزيز الثعالبي وغيرهما. ومثّلت البحرين والكويت في تلك الفترة أهم المحطات الرئيسة في تلك الزيارات. ومع التحولات التي حدثت بعد ذلك، وأبرزها كان سقوط الدولة العثمانية، وظهور حركة القومية العربية والنهوض الثقافي الذي تزامن معها، كان تأثير ذلك واضحاً أيضاً، حيث أسهم بعض أبناء دول الخليج في تأسيس أو المشاركة الفعالة في التنظيمات القومية المختلفة.كما أن الفترة التي تلت هزيمة يونيو (حزيران) وتصدُّع حركة القوميين العرب وتوجُّه العديد من أطرافها نحو الأفكار اليسارية والاشتراكية، أصاب ذلك التحول الحركات والتجمعات السياسية الخليجية أيضاً التي كانت جزءاً من الحركة القومية. وألقت التحولات نحو الإسلام السياسي، والأصولية الدينية في الساحة العربية، بظلالها على مجتمعات دول مجلس التعاون، إذ انتشرت في العديد منها الحركات الأصولية، وحدثت ردة ثقافية في معظم دول الخليج، ووصلنا إلى واقع الحال الذي نحن عليه اليوم. وعليه نجد أن شعوب دول المجلس كانت على تفاعل حي ومستمر مع التطورات التي كانت تحدث في الساحة الثقافية العربية. لكن، وخلال العقدين الأخيرين، حدث اختلال في تلك العلاقة، أنتجته مجموعة عوامل يمكن أن تدفع إلى حد ما باستقلالية منطقة الخليج، وإمكانية حدوث تطور ثقافي فيها، ويعود ذلك إلى التراجع الكبير الذي حدث على مستوى الثقافة العربية ومظاهرها المختلفة. فهناك عامل جوهري في الرابطة الثقافية ما بين منطقة الخليج العربي والدول العربية في ما يتعلق بالثقافة، حيث كانت الحركة الثقافية برموزها العربية المعروفة حلقة الوصل ما بين الثقافة والحضارة الغربية وتطوراتها الفكرية، كأكثر الحضارات تقدماً في العالم، والمهتمين بالثقافة من الخليجيين. فمنطقة الخليج العربي كانت صلاتها التاريخية والثقافية مع جنوب شرق آسيا وشرق أفريقيا، بينما كانت صلات الدول العربية المطلة على البحر المتوسط وغيرها مباشرة مع أوروبا، فنهل منها المثقفون والمفكرون جوانب كثيرة من ثقافتها، علاوة على الطلبة العرب الدارسين هناك، والذين تقلدوا مناصب أكاديمية وسياسية وغيرها لدى عودتهم منها.وشكلت البعثات الدراسية الخليجية إلى الدول العربية أول احتكاك مباشر مع الثقافة الغربية وعلومها، من خلال الجامعات والمعاهد أو الأكاديميين ومن ثم الاحتكاك مع الأفكار والإضافات والمناقشات التي قدمتها الرموز الثقافية العربية المعروفة للعلم والفكر الغربي والتحليلي للأفكار والآراء التي أضافوها عليها إيجاباً أو سلباً. وكان لتلك الرموز أثر لا يمكن نسيانه على كثير من أبناء الخليج العربي، وكمثال على ذلك الطلبة الكويتيون الذين ذهبوا إلى بغداد والشام ومصر التي كانت آنذاك قلب الثقافة العربية في أوج ازدهارها.كانت تلك الدول ورموزها الثقافية، إن جاز التعبير، الوسيط الذي نهل منه الخليج جوانب عديدة من المعرفة والعلم والثقافة التي صبت في اتجاه التحديث الثقافي، خصوصاً حركة الإصلاح الديني والثقافة القومية التي غلب عليها الطابع التنويري إبان المد القومي وغيرها من أفكار ومفاهيم متطورة. لكن مع التراجع الكبير الذي جرى على الساحة السياسية، خصوصاً بعد تراجع الحركة القومية العربية، تراجعت الثقافة التنويرية، ورحل العديد من رموزها المعروفين، وانتشرت، كما هو معروف، القوى الأصولية بثقافتها المنغلقة والإقصائية، وأتت على النتاج الثقافي خلال النهضة العربية الحديثة.ومع بروز ظاهرة العولمة خلال العقدين الأخيرين، وتطور تكنولوجيا الاتصالات، ونقل المعلومة، والانفتاح الذي حدث بين دول العالم بعد نهاية الحرب الباردة، أصبحت دول العالم على اتصال مباشر مع مظاهر الثقافة والعلوم الغربية وغيرها، وانتشرت معها العديد من القيم والأفكار التي أحدثت تأثيرات مباشرة على معظم شعوب العالم، سواء السلبية منها أم الإيجابية. بالنسبة إلى منطقة الخليج العربي كان لذلك تأثير كبير من نواح عدة نشير إلى أبرزها. فقد أحدث تطور التعليم والبعثات الدراسية لدول العالم، خصوصاً الغرب، وتطور وسائل الاتصالات، أن أصبح احتكاك دولها مباشرا مع الحضارة الأكثر تقدماً في العالم، وهي الغربية. فقد تلاشى دور الوسيط السابق الذي لعبت بعض الدول العربية السباقة في التعليم ورموزها الثقافية، وأصبح الاحتكاك مباشرة مع مصدر المعرفة والثقافة المعاصرة.ومن جانب آخر، فإن التقدم والانتشار الكبير واستخدام اللغة الإنجليزية في معظم، إن لم يكن كل دول المجلس، أعطاها أفضلية على بعض الدول العربية الأخرى. فهناك بعض الدول العربية، خصوصاً الشام والمغرب العربي، وهي من أكثر الدول حالياً اهتماماً بالثقافة، على اتصال وثيق باللغة والثقافة الفرنسية، وهذا ما يجعل مساحة اطلاعها خلالها على العلم والثقافة ومظاهرها المختلفة، أضيق من تلك التي تتعلق باللغة الإنجليزية. فاللغة الإنجليزية هي لغة العلم في عالم اليوم، مثلما كانت العربية في العصور الوسطى، وهذا يعطي من يتقنها اطلاعا واسعا على المعارف والكتب والدوريات والصحف وغيرها التي تنقل كمّاً كبيراً من المعلومات والأفكار والثقافات الأخرى، ما يسهم في توسيع المدارك والآفاق والاستفادة القصوى من العلم والمعرفة المتطورة. ونظراً إلى قلة عدد السكان الأصليين في معظم دول المجلس، فإمكانية التغيير الثقافي تحظى بقابلية قوية لكون كثير من الوافدين أصحاب شهادات وخبرات متميزة، وينقلون كثيرا من التجارب والأساليب المتطورة في العمل والرؤى والأفكار. وهذا يعد سلاحا ذا حدين، فجزء منه يدعم عملية التغيير والتحديث وهو إيجابي. أما السلبي فيكمن في التأثير العميق على الهوية الوطنية والثقافة التقليدية المحلية، وهي ليست موضوع نقاشنا هنا.إن ما نشاهده حالياً في دول مجلس التعاون يشير إلى وجود أرضية تتضمن عوامل فعالة لإحداث متغيرات ثقافية فيها، والسؤال المهم هو في أي وجهة ستسير عملية التتغيير هذه؟ وما هي المعيقات التي تعترض طريقها؟ وما العوامل المساعدة لإحداث نهوض ثقافي إيجابي؟ [c1] «أوان» الكويتية[/c]