جلال أمين .. في كتاب السيرة الذاتية :
"ماذا علمتني الحياة؟" عنوان السيرة الذاتية للكاتب "جلال أمين" في كتابه الأخير الصادر عن دار الشروق. تضمن الكتاب عدة فصول تناول من خلالها عائلته ومذكراته عن والده "أحمد أمين" ووالدته وأخوته السبعة، أصدقاء الصبا، الجامعة، ثورة تموز (يوليو)، حزب البعث، الجامعة، زواجه وأولاده وأحفاده. تناول الكثير من الأحداث والمواقف والمشاعر بأسلوب بسيط وجذاب، إلا أن هناك بعضًا من التطويل في سرد بعض الأحداث. وذلك لا يلغي من أهميتها، ولكن كان من الأفضل لو تم تنظيمها بشكل آخر، كما فعل الكاتب في الفصل الأخير من الكتاب "البدايات والنهايات" الذي تناول من خلاله أحداث ومواقف مهمة، وحللها من الناحية الاجتماعية والنفسية مازجًا الخاص بالعام. فهو قد بدأ بكتابة الكتاب منذ عشرين عامًا عندما كان يقضي سنة في لوس انجلوس يدرس في إحدى جامعاتها، ووجد لديه من الوقت ما يزيد على ما يحتاج إليه لتحضير محاضراته، لم يبدأ الكتابة بالترتيب كما ذكر في مقدمة كتابه بل أخذ يكتب عن أي حادث حدث له واعتبره مهمًا أو عن أي شخص عرفه يومًا ما وأثر في نفسه بحسب ما يلائم مزاجه أو حالته النفسية وقت الكتابة. وزاد ما كتبه مع مرور الزمن حتى بدا وكأنه يصلح لأن يكون سيرة ذاتية. وما يحسب للكاتب جلال أمين هو صراحته في مواجهة نفسه... في نقد ذاته قبل نقد الآخرين، إضافة إلى أهمية تحليلاته لكثير من الأمور التي مرت في حياته. فعل كل ذلك دون أن يعطي أي اهتمام لما قد يسببه بعض هذا الذي كتبه من ألم لبعض الأشخاص. ولم يمتنع عن ذكر الأسماء الحقيقة لبعض الأشخاص الذين وجه إليهم نقدًا قاسيًا إذا كانوا شخصيات عامة تاريخهم ملك للناس جميعًا كبعض السياسيين المصريين الذين كان له معهم قصة أو قصص لا يعرفها غيره، ورأى فيها مغزى عامًا يجعلها جديرة بأن تروى. ويقول قد تفيد قراءة هذا الكتاب في شيء واحد على الأقل وهو أن يعرف القارئ، إن لم يكن قد عرف بعد، أن الناس أشبه كثيرًا ببعضها البعض، مما قد يظن سواء في ما يتعرضون له من بواعث السرور أو في ما لا بد أن يصادفوه بين الحين والاخر من خيبة أمل. [c1]الإنسان مع دولابه وتمثاله.. [/c]كتب سيرته الذاتية من خلال رؤيته أن حياة كل منا تشبه قطعة الحجر الذي يستخدم في صنع التماثيل، لا يحتاج كاتب السيرة الذاتية إلى البحث عن تبرير لكتابتها. إذ إن تمثالاً جميلاً يكمن في حياة كل منا والمطلوب فقط هو الكشف عنه. لا يحتاج كاتب السيرة الذاتية إلى أن يكون شخصًا عظيمًا أو سياسيًا خطرًا أو أن يكون قد قابل في حياته بعض الكبراء المشهورين. أو أن يكون كاتبًا مرموقًا أو فنانًا موهوبًا. فكل منا شخص متميز بل ومتميز جدًا ولديه في مسيرة حياته ما يستحق أن يروى. ويضيف أن التمثال الجميل كامن داخل كل قطعة من الحجر، حتى لو بدت قطعة حجر عادية. المطلوب فقط استخراج التمثال المختبئ من مكمنه. كما أنه يتصور حاله وحال كل من يعرفه وكأن كلاً منهم يحمل دولابه الثقيل، يأتي معه الى الدنيا ويقضي حياته حاملاً إياه دون أن تكون لديه أي فرصة للتخلص منه، ثم يموت وهو يحمله. على أنه دولاب غير مرئي، وقد نقضي حياتنا متظاهرين بعدم وجوده، أو محاولين إخفاءه، ولكنه قدر كل منا المحتوم الذي يحكم تصرفاتنا ومشاعرنا واختياراتنا أو ما نظن إنها اختياراتنا. فيقول "أنا لم اختر أبي وأمي أو نوع العائلة التي نشأت بها، أو عدد أخوتي وموقعي بينهم، ولم اختر طولي أو قصري، ولا درجة وسامتي أو دمامتي، أو مواطن القوة والضعف في جسمي وعقلي. كل هذا علي أن أحمله أينما ذهبت، وليس لدي أي أمل في التخلص منه". [c1]عائلته.. [/c]تحدث كثيرًا عن والده المفكر "أحمد أمين" وحلل تصرفاته وفكره بأسلوب سلس. فكان رجلاً قليل الكلام. قليل المرح. يأخذ الحياة مأخذ الجد. ولا يجد متعة حقيقية الا في القراءة والكتابة. والزواج في نظره لا يستلزم الحب بل هو لمجرد تكوين أسرة واكمال الدين. كما اشار الى صورة لوالده يوم زواجه ولكنها لوحده بدون والدته استند فيها الى بضعة كتب وكتب خلف الصورة أنه "اختار الكتب رمزاً وشعاراً وأرجو من الله أن يوفقني الى عمل عظيم أنفع فيه أمتي". ويحلل ويفسر جلال أمين لماذا استقر في ذهن والده منذ وقت مبكر من حياته أن من الواجب ومن الممكن أن يكرس حياته لعمل عظيم؟ هي النزعة المتأصلة فيه منذ الطفولة نحو الاصلاح اضافة الى ذكاؤه وتوفيقه المستمر في دراسته. أما عن العلاقة العاطفية والزوجية، فيقول الكاتب إن والده كان في الخمسين من عمره عندما ولد وكانت والدته في نحو الأربعين، وعندما بدأ يفهم معنى العلاقة الزوجية كان والده قد تجاوز الستين ووالدته جاوزت الخمسين، فلم يشهد أي منظر للتودد بينهما أو تبادلهما أي نوع من عبارات الحب والغرام! كما تناول في كتابه اخوته السبعة بداياتهم وعلاقاتهم وشيخوختهم... وفسر الاختلافات الشاسعة بالميول والشخصيات بينهم. وأشار الى البيئة الثقافية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتأثيرها على كل ما يخص العائلة والبيت فقد ركز على خلو منزل العائلة من أي مسحة من الجمال وذلك يعود بوجه عام الى النظرة السائدة آنذاك الى تأثيث البيت فهي نظرة وظيفية بحتة أي المهم أن يؤدي الاثاث وظيفته. [c1]فكره.. [/c]تناول العديد من الكتب-الادب العربي والمترجم- التي قرأها في صباه وكيف أثرت في فكره وانتقد بعضها منتقدًا أسلوب الكاتب نفسه، وكيف تغيرت مشاعره تجاه هذه الكتب بعد أن قرأها مرة ثانية بعد أن تجاوز الستين من عمره. ويقول، ما أجمل الكتب التي قرأها بين سني العاشرة والعشرين وعندما يسترجع في ذهنه ما كان يقرأه في تلك الفترة لا تدهشه كميته بقدر ما تدهشه جودته ويتساءل بأسف: "كم هو صعب في أيامنا الحالية أن تجد مثل هذه النوعية من الكتب". ويقول إن الفضل الاكبر في اهتمامه بالقراءة يعود الى البيت الذي نشأ فيه. ومن الكتب التي علق عليها كتاب "زهرة العمر" لتوفيق الحكيم الذي اعجب به بشدة في تلك الفترة، إلا انه أعاد قراءته بعد أن تجاوز الستين فلم يترك لديه أي أثر من الاعجاب والتقدير القديمين. وأيضًا أعجب بأسلوب طه حسين ثم بعد سنوات وجده مملاً ومصطنعًا. أما اسلوب العقاد فكان يصيبه بالاعياء ما عدا قصة سارة. وشأنه شأن والده أحمد أمين فقد اتخذ قراره في سن مبكرة ليحقق نوعًا من التفوق أو التميز، عن طريق الكتابة... وكان لهذا القرار علاقة وثيقة بالمكانة العالية التي كانت تحتله الكتابة والتأليف والنشر في أسرته. وتناول الكاتب انضمامه لحزب البعث العربي الاشتراكي وكان ذلك خلال سنوات الجامعة، عندما تعرف لأول مرة إلى فكرة العروبة والوحدة العربية عن طريق مجموعة من الطلبة العرب من الاردنيين والسوريين واللبنانيين. كان معظمهم أعضاء في حزب البعث العربي الاشتراكي. انضم إلى الحزب وأصبح مسؤولاً عنه في مصر. ويقول كانت أول تجربة وآخر تجربة له في الانضمام لحزب سياسي وهي تجربة صبيانية على حد تعبيره أكثر منها تجربة جادة في العمل السياسي. فلم يكن قد بلغ العشرين عندما انضم لحزب البعث وتركه وهو في الثالثة والعشرين. ويحلل سبب دخوله للحزب من الناحية النفسية والاجتماعية بميله الطبيعي في سنه للاشتراك في عمل جماعي مع شباب في نفس السن يعبر فيها كل منهم عن شخصيته التي بدأت في التكون وأملهم في الحصول على المودة والتقدير من الآخرين. [c1]ماذا حدث للمصريين؟[/c]كما تناول في كتابه كيف خرجت فكرة كتاب "ماذا حدث للمصريين". بدأت قصته في عام 1996 بطلب من صديقه "مصطفى نبيل" عندما كان رئيساً لتحرير مجلة الهلال الشهرية بأن يساهم في مقال في ملف بعنوان ماذا حدث للمصريين. يتأمل من خلاله ما طرأ على الحياة الاجتماعية في مصر من تغيرات وأن يحاسب المصريون أنفسهم على ما ارتكبوه من أخطاء على أمل أن يبدأوا صفحة جديدة في القرن الجديد يحققون ما فشلوا في تحقيقه من قبل. وقد نجح الكتاب مع القراء عندما نشر عام 1998 ونفذت النسخة الاولى في أقل من عام مما دفع مكتبة الاسرة الى إصدار طبعة جديدة في العام التالي ونفذت خلال عامين. ثم صدرت بعد ذلك طبعتان بالعربية. وترجم قسم النشر بالجامعة الاميركية وصدرت الطبعة الإنكليزية عام 2000 وأعيد طبعها تسع مرات. [c1]خيبة الامل.. [/c]يقول في نهاية كتابه إنه اعتبر أن حياته ناجحة، ولكن أكثر ما شعر به من خلالها من خيبة أمل ليس فقط في ما يتعلق به شخصيًا بل أيضًا بأصدقائه ومعارفه وبلده. فكم علق من آمال على تغير سياسي في مصر ثم ظهر أن الاحوال لم تتحسن بل أصبحت اسوأ مما كانت عليه من قبل. وكان يظن أن العلم يمدنا بمعرفة يقينية بالعالم ثم ظهر له مدى خضوع العلماء خاصة في العلوم الاجتماعية والانسانيات شأنهم في ذلك شأن غيرهم للتحيزات والأهواء. وأضاف انه أيضًا لاحظ الشعور بخيبة الامل على والده في شيخوخته لأسباب كثيرة... وما أشدها خيبة أملنا جميعًا في الثورة المصرية.. إذ يبدو كل ما علقناه عليها منذ 50 عامًا وكأنه قد تبخر سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة.