حطبينة.. واحدة من تلك السلسلة الطويلة من المعالم الإنسانية التي تركت بصمة كبيرة في قلوب سكان المدينة. كانت هذه (الجابية) تمثل مظهرًا أصيلًا للكرم والعطاء، تجسد في فيضها إنسانيةً نابضة لم تزل تُذكر بحنين دافئ، كما يذكر الأحياء مكارم موتاهم عند زيارتهم لأضرحتهم.
توالت الأيام والشهور دون توقف، وأنجبت عقودًا من رحم الأعوام، ومع توالي الأزمنة، بقيت حطبينة معلمًا إنسانيًا محفورًا في الذاكرة الوجدانية، وكأن في إنسانية حطبينة التي كانت تجسدها قد عملت على صياغة شيء من ملامح التشابه في الطبيعة القلبية التي سكنت وجدان أهل المكلا.
حطبينة.. الواقعة في ذات زمان بعيد خلف المدرسة الغربية، بمدينة المكلا، حالها كحال من وهبه الله مَزيّة الترف الإنساني، مثلها مثل المرأة الفاضلة التي تروي عطش كل من استند على عتبات بيتها، يشكو الظمأ في زمن القيض، مما جعل حطبينة ملاذًا إنسانيًا غنيًا بالعطاء، حاضرة في ذاكرة أهل ذلك الحي العتيق.
هكذا مضت مياه حطبينة لعقود عديدة، كريمة روح، جابرة للخواطر، كالغيث أينما وقع نفع كانت توزع ابتساماتها بنفس طيبة على سكان (برع السدة) قديمًا، فاردة ذراعيها مرحبة بكل من يفرّ إليها ظمآن. حتى أطلق على حطبينة في تلك الحقبة المنصرمة «مربية الأيتام»، ذلك أنها كانت توفر فرص رزق للأرامل اللواتي كن يحملن على أكتافهن الغرب المليء بالماء، ليطعمن أطفالًا يتامى فقدوا باكرًا سند الأب. ومعروف أن أجرة السقي (للمعرصين)، وللنساء حاملات (الغرب) في تلك الأيام كانت تُصرف بالعملة الروبية.
أما مسار الماء إلى حطبينة، رحلة طويلة عبر العتم الطيني الذي يمر بعدد من المراحل، يبدأ من منطقة البقرين، يمر عبر جبال شعب البادية ومنطقة الرزميت، ويظل الماء يتدفق بانسيابية وسلاسة رقراقًا في مجراه الطيني وصولًا إلى جابية توجد تحت مرتفعات (باحوش) ، على مقربة في علو من موقع المستشارية البريطانية التي لا تزال في معالمها بقايا ظلت إلى يومنا شاهدة على قصص وروائع حطبينة المرأة وحطبينة الجابية.
ففي هذه الجابية الباحوشية، يتجمع الماء القادم من منطقة البقرين، ثم يصب صبًا متدفقًا إلى قاع جوابي حطبينة. وكان هناك رجل سمح في صفاته يُدعى من قبل الأهالي «بالعم سالمين»، مسؤولًا مباشرًا على مجرى العتم، يتفقده بقطع المسافة مشيًا على أقدامه من حطبينة إلى منطقة البقرين والعودة، تفاديًا لحدوث أي انسدادات تعكر صفو مجرى العتم الطيني الذي صُمم بطرق هندسية فلسفية جديرة بالدراسة والتأمل.
وكان نظام توزيع المياه في حطبينة يعتمد على عملية منظمة عبر ما يُعرف بـ «البشتاتي» أو «الشتي»، هكذا كان يُطلق عليه، عبارة عن كرت مربع الشكل يُصنع من القسطير (قريب إلى الحديد في ملمسه)، محفور في وسطه رقم يحدد كمية الحصة من مياه حطبينة بحسب عدد أفراد الأسر المستفيدة. ما يسمح بمرورك إلى داخل حطبينة سالمًا غانمًا لأخذ نصيبك من الماء.
وكان العم سالم بن عسلة آخر القائمين على أعمال حطبينة في ذلك الزمان الزاهر، وأغلب الظن -كما قيل- كان ذلك في عهد فقيه الدولة القعيطية، السلطان صالح بن عوض القعيطي.
قصة حطبينة.. تروي القصة، كما ذكر بعض المعاصرين، أن جابية حطبينة، كانت تحمل اسم زوجة أحد المهاجرين الميسورين الذي بنى هذه الجابية لشحة المياه ولحاجة الناس للماء في ذلك العهد العفوي، بعد عودته إلى مدينة المكلا. فجاء اسم الجابية نسبةً لها، كونها معروفة لدى الأهالي أكثر من زوجها الغريب.
