
هذه المقولة أصبحت عبارة عن غطاء للسلبية والانحراف الأخلاقي، فمن الناحية الاجتماعية الإنسان ليس كائنا منعزلا، سلوكه يؤثر ويتأثر بالآخرين ولذلك فإن الصمت المجتمعي المبالغ فيه أمام الانحرافات أو السلوكيات الضارة لا يُعد احتراماً للحريات بل تقصيراً في أداء الواجب الأخلاقي تجاه الجماعة.
في كل ثقافة أو ديانة هناك قيمة سامية تحث على إصلاح الآخر باللين والنصيحة لكن حين يُقال “دع الخلق للخالق” في مواجهة الغش أو التحرش أو النصب مثلاً فإن العبارة تُستخدم كستار للهروب من المسؤولية المجتمعية وبدلاً من التصدي للخطأ أو نصح المخطئ بلطف يلوذ البعض بهذه العبارة ليبرروا صمتهم وكأن لسان حالهم يقول “لسنا مسؤولين عن إصلاح أي شيء” وهنا تبدأ اللامبالاة بالانتشار كالعدوى وتبدأ شرعنة التخاذل والجبن الاجتماعي.
من وظائف المجتمع أن يكون بيئة تذكير ومحاسبة ناعمة لكن إذا أفرط في استخدام هذه العبارة فإننا نُفرغ الحياة من هذه الرقابة ونتحوّل إلى أفراد ينزلقون بلا وعي في فوضى السلوك ونلغي دور الرقابة الأخلاقية الإيجابية.
متى تُصبح عبارة “دع الخلق للخالق” أداة نُبل ورقي؟
رغم ما سبق.. لا يمكن إنكار أن هذه العبارة تحمل في طيّاتها رحمة وحكمة وتقديراً للنوايا حين تُستخدم بشكل سليم فهي تذكّرنا أن هناك أمور لا نملك الحكم عليها مثل النوايا والبواطن، فالنوايا محلها القلب ولا يعلم حقيقتها إلا الله، فلا يصح الحكم على إيمان أحد أو سريرته مثلاً لأنها ليست فعلا أو شيئا ظاهرا يمكننا الحكم عليه ولا حق لنا في ذلك وهنا يكون قول “دع الخلق للخالق” مناسبا وفيه حكمة.
عند مواجهة الفضول أو التنمر أيضاً حين يتطفل البعض على شكل إنسان واختياراته الشخصية في الحياة أو يطلقون أحكاماً لا تستند إلى ضرر أو شيء واضح ناتج عن فعل أو قول ظاهر تصبح العبارة أداة للدفاع عن كرامة الإنسان ودرعاً ضد التعدي اللفظي والاجتماعي.
“دع الخلق للخالق” ليست عبارة خاطئة في جوهرها لكنها تصبح خطرة حين تُستخدم في غير موضعها فلا ينبغي أن تكون سلاحاً للصمت المريب ولا غطاءً للخطأ بل دعوة إلى التواضع واحترام حدودنا كبشر، ولكي نحيا في مجتمع سليم لا بد أن نوازن بين الرقابة الأخلاقية والنصح وبين احترام الحريات والخصوصيات، فالدين والعقل والمنطق جميعها تدعونا لأن نُصلح برفق لا أن نصمت بذريعة زائفة.