
من الظاهر، قد تبدو كثافة الضربات وكأنها اعلان حرب على مليشيا الحوثي بما يعكس قرارًا دوليًا حازمًا بتفكيكها خصوصًا بعد ان اصبحت مصدر تهديد كبير للملاحة الدولية. ولكن إذا نظرنا الى الموضوع عن كثب، نجد أن الضربات لا تتجاوز حدود الردع التكتيكي. إذ لم تُرفق هذه العمليات بأي اشارات تدل على التنسيق الفعلي مع القوات العسكرية اليمنية على الأرض او على وجود مشروع متكامل للحسم، او دعم مباشر لاستعادة السيطرة على الأرض.
من الواضح ان الولايات المتحدة لا تسير في اتجاه إسقاط مليشيا الحوثي بل تمارس ما يمكن وصفه بـالفوضى المنضبطة وهي نسخة محدثة من استراتيجية الفوضى الخلاقة. هذه الاستراتيجية تقوم على ادارة الصراع، لا حسمه وعلى ضبط اللاعبين، لا استبدالهم. الهدف منها هو إبقاء مناطق النزاع في حالة توتر دائم، دون السماح بانهيار كامل او انتصار حاسم لأي طرف، ما يؤدي إلى إنتاج توازنات هشة تتيح تحكمًا مستمرًا في مخرجات الصراع، دون الانزلاق إلى التزامات ميدانية طويلة الأمد.
في هذا السياق، تتقاطع الأحداث مع سيناريوهين محتملين:
السيناريو الأول، الذي يُرجى وطنيًا، هو أن تستغل القوات الحكومية الضربات الامريكية لتحقيق اختراق عسكري كبير يؤدي إلى إنهاء وجود مليشيا الحوثي كقوة مهددة للدولة. لكن هذا السيناريو يتطلب ارادة يمنية صلبة وغطاءً عربيًا ودوليًا صريحًا وضمانات حقيقية لما بعد الحسم وهي شروط غير متوفرة في اللحظة الراهنة. رغم أن هذا السيناريو هو الأكثر املًا، الا أنه غير مرجح في ظل غياب إشارات امريكية بتبني خيار الحسم الكامل فضلاً عن تعقيدات المشهد السياسي اليمني.
اما السيناريو الثاني، الذي يبدو اكثر احتمالًا في الوقت الراهن، فيتمثل في استخدام الضربات كأداة ضغط على الحوثيين لدفعهم إلى القبول بتسوية سياسية جديدة تُعيدهم الى الطاولة دون أن تخرجهم من المعادلة. وبذلك يتم إعادة إنتاجهم سياسيًا لكن ضمن توازنات تفرضها المعادلات الاقليمية والدولية وليس الإرادة الوطنية.
هذا السيناريو، على الرغم من أنه قد يساهم في تقليص تهديد مليشيا الحوثي، لا يضمن نهاية مشروعهم بل قد يُشرعن وجودهم مستقبلاً ضمن بنية سياسية هشة مما يتيح لهم البقاء والتمدد من جديد تمامًا كما حدث مع حزب الله في لبنان، حيث انتهت كل جولة تصعيد بتسوية تحت الضغط.
وفي ضوء استراتيجية الفوضى المنظمة، يبدو أن الولايات المتحدة لن تُسقط مليشيا الحوثي ولن تسمح له بالانتصار بل تسعى إلى ضبط دوره وتحديد سقف طموحاته وفقًا لحسابات المصالح الدولية، لا لحسابات استعادة الدولة اليمنية.
وبناءً على ذلك، اذا لم يمتلك اليمنيون مشروعًا وطنيًا مستقلًا يتوازى مع الضربات الجوية بتحركات ميدانية موحدة واستثمار سياسي ذكي، فإننا نُواجه جولة جديدة من التدوير السياسي لمليشيا الحوثي دون أن نصل إلى نهايتها.