
وفي أحد الأيام، وبينما نلهو، عثرنا على بقايا قنبلة لم تنفجر. لعبنا بها ببراءة الطفولة، حتى مرّ أحد الفدائيين صارخًا: “ارمِها وانبطحوا!”، لتنفجر القنبلة على مسافة قريبة منا. أصابنا الهلع، خصوصًا بعد أن انتشرت القوات البريطانية للبحث عن مصدر الانفجار، غير أن العناية الإلهية نجتْنا، واحتضننا المجتمع العدني المتماسك، حيث أدخلتنا إحدى الخالات إلى بيتها، تخفف من روعنا حتى انصرفت القوات.
كانت بيوت الحي تفتح أبوابها لأطفال الجوار، فنلتقي في منزل أحد الميسورين الذي امتلك جهاز تلفاز لمتابعة مسلسلات مثل “الهارب” (أو مسلسل “البونانزا”، الكاوبوي الشيّق والممتع)، التي أسرتنا بحركات أبطالها وسرعة استخدامهم للمسدسات. فكنا نقلدهم بألعابنا الخشبية، نختبئ ونتعقب بعضنا، ومن ينجح في محاصرة زميله يصيح: “هاندزاب!” أي: “ارفع يدك استسلامًا”، ثم يأخذ سلاحه ويسلمه للآخرين. تطورت ألعابنا إلى تشكيل عصابات بين الأحياء، نمارس لعبة الكرّ والفرّ، لتنمو شخصياتنا على الإيمان بأن الحياة صراع بين أصحاب الأرض والغزاة.
كبرنا، وبدأنا نستوعب الواقع، نشاهد المقاتلين يقاومون الاستعمار، ونقرأ ما كُتب على الجدران من رموز مثل: (FLOSY) و(NLF)، وندرك أن هناك جبهتين: “القومية” و”التحرير”، تقاتلان الاستعمار جنبًا إلى جنب. غير أن عام 1967م لم يأتِ حتى بدأت الانقسامات، وشهدنا صراعات بين شركاء الكفاح، وانتهى الأمر بتصفية جبهة التحرير. استقينا تفاصيل تلك المرحلة من روايات الآباء والأمهات، الذين فسّروا الأحداث ببساطة: إن المستعمر سلّم السلاح للجبهة القومية وخدع جبهة التحرير.
شاهدنا جيرانًا لنا يختفون فجأة، وسمعنا عن نزوحهم، ومع ذلك، ظل الحلم يراودنا، حلم الاستقلال، الدولة الفاضلة، أن نقطف التفاح والعنب من نوافذ البيوت، إلا أن طفولتنا البريئة تحطمت سريعًا، لتدخل النكبة الثانية قلوبنا مبكرًا. حاولنا التأقلم مع النظام الجديد، غير أن سنوات قليلة مضت، وبدأت جولات جديدة من التصفية السياسية، وهذه المرة داخل الجبهة القومية نفسها، فكان الانقلاب على قحطان، ثم سالمين، ثم مجازر 13 يناير 1986م، التي شكّلت خاتمة دامية، وغيرت قناعاتنا جذريًا.
مع تطور وعينا، أدركنا أهمية المشروع الوطني والتنوع الثقافي والسياسي، وراودنا الأمل مجددًا مع الوحدة اليمنية، لكنها سرعان ما تحولت إلى نكبة ثالثة في عام 1994م. تلك النكبة دفعتنا لإعادة قراءة التحولات السياسية، فاكتشفنا حجم التدخلات الخارجية، وأنظمة الوصاية والتبعية، وصرنا نرى في الجنوب اليمني رهانا لاستعادة أحلامنا المهدورة.
آمنا بالثورة والدولة الاتحادية ومخرجات الحوار الوطني، لكن النكبة ما تزال تلاحقنا، إذ لم يتركنا الإقليم وشأننا، بل عمّق الأزمة بتدخله المستمر، فصار المشهد السياسي رهينة حساباته، وأصبحت النكبة واقعًا متجذرًا. لقد غدت نكبتنا مركبة: وطن منكوب، شعب منكوب، ثورة منكوبة، جمهورية منهوبة، ديمقراطية مغيبة، وعدالة مفقودة، فيما المستفيد الوحيد هم أولئك الذين اعتلوا موجة النكبة، وبايعوا الإقليم على حساب كرامتنا واستقلالنا.
اليوم، نحمل في ذاكرتنا نكبات متعاقبة: من نكبة 1967م، إلى نكبة 13 يناير 1986م، إلى كارثة 1994م. إن كلمة “نكبة” لم تعد توصيفًا لحادثة طارئة، بل صارت كيانًا متجذرًا في وعينا، تنتقل من جيل إلى جيل، وتورث الوجع كأنها قدر لا يُردّ.
لا أذكر متى تعرّفت لأول مرة على هذا المصطلح، لكنه كان حاضرًا في كل مراحل تشكل وعيي، وصياغة شخصيتي، ما جعلني أختار أن أكون ناشطًا ثقافيًا وسياسيًا، مؤمنًا أن تجاوز النكبة يستلزم التغيير، والتغيير لا يتحقق إلا بالخروج من شرنقة الماضي، والتمرد على استجرار الهزائم.
أحداث النكبات خلّفت فينا ندوبًا عميقة لم تندمل، ولا تزال تمارس علينا كواقع قاسٍ: من تهجير وقمع، إلى إذلال وسجون. ما نحتاجه اليوم هو قيادة حكيمة، تُخفف من تبعات تلك النكبات، وتمنع تراكمها، وتؤسس لمستقبل مختلف. قيادة لا نجدها في العصبيات القبلية، أو النفوذ العسكري، أو ثقافة الثأر، بل في عقليات ناضجة، ونفوس نقية، وكفاءات مهنية قادرة على استخلاص الدروس من الماضي، وصياغة مستقبل جامع.
نحن بحاجة إلى كتلة تاريخية تعيد ترتيب المشهد الوطني، وترسم استراتيجيات واقعية، تؤسس لتحول سياسي شامل، يضع حدًا لسلسلة النكبات، وينتصر للوطن والشعب، بعد أن خذلتهما قوى الداخل والخارج معًا.