.jpeg)
وأذكر انني أحسست بالجوع والظمأ الشديدين في يوم صيامي الأول، فاضطررت للإفطار.لا أذكر الآن إن كنت شربت ماءً، أو أكلت شيئا من طعام أعدته أمي الحنونة، لإخوتي الأصغر سنا. لكن أذكر تماما ان أبي عندما علم بالأمر، لم يغضب مني مثلما كنت أخمن، ولكنه قال لي : “لماذا لم تكمل صيامك يامحمد ؟” اجبته: “صعب ياأبي ..صعب. لا اقدر أن أصوم النهار كله !” ابتسم وقال : “أعرف، لكن عليك أن تتعود مِن الآن.” سألته: “كيف ؟” أجابني كما هي عادته بكلمة واحدة، إذ كان أبي من النوع الذي لايحب الكلام الكثير، وقد ورثت عنه ذلك : “خيِطُهْ!” وسكت دون أن يضيف شيئا أو يعطي تفسيرا، وعاد إلى تلبية حاجات زبائن دكانه ..
ذهبت إلى أمي واخبرتها بما قاله لي أبي، وسألتها:”هل الصيام ثوب حتى يخيط؟” ضحكت أمي من سذاجتي وقالت : “لا .. ولكن أباك يقصد أن تصوم نصف النهار فقط ! وهذا عندما تحس أنك لم تعد قادرا على إكمال الصوم. تأكل ثم تواصل الصيام حتى أذان المغرب . قلت لها :
“بسيط، إذا كان الأمر هكذا . “
كانت هذه “البروفة” أو التمرين الأول في كيفية الصوم وأنا طفل صغير .وقد كان أبي الرجل الحكيم يعرف انني لست مُكلفا بالصيام في هذا العمر كما هو الامرفي الصلاة، ولكنه أراد أن أتعود على الصيام منذ هذه السن المبكرة حتى يصبح الأمر سهلا عندما أكبر ويحين وقت الصيام والتكليف الحقيقي، ولهذا أيضا اخترع فكرة (خياطة الصيام)تلك التي راقت لي، واستعنت بها على الصوم، ومع ذلك كانت تأتي أيام كنت لا أستطيع فيها صوم اليوم كله، فكنت أفطر بقليل من الحلوى والقاورمة، وكان بيتنا لايخلو منهما، وكان أبي يحب تناولها، وكنت أترجى أمي الاّتخبر أبي أنني أفطر، واتظاهر أمامه بأني صائم حتى يفتخر بي. فكنت أنام أغلب النهار حتى يصدق أنني صائم بالفعل، وعند أذان المغرب أكون أول الجالسين على المائدة. لكن أبي اكتشف الأمر ولا أدري كيف . فقال لي مُعاتبا: “لايكفي انك لاتصوم فقط، ولكنك تكذب أيضا! وفوق هذا تجعل أمك الصائمة تكذب من أجلك وهذا أسوأ..!! “
من تلك اللحظة عزمت أن أكون عند حسن ظن أبي بي، فأقلعت عن الكذب، وعن خياطة الصوم، فكنت أصوم اليوم كله. وعندما جاء رمضان في السنة التالية كان الأمر سهلا علي فصمت الشهر كله دون عناء. وأكثر من هذا كنت انتظر موعد قدوم الشهر الفضيل بفارغ الصبر وافرح لمجيئه كباقي الأطفال لما يصاحبه من مشاعر إيمانية ومن مظاهر استقبال استهلالية، و من عبادات مثل صلاة التراويح، وتلاوة القرآن، وليالي الختم، ومن مظاهر احتفالية أخرى، فكانت المقاهي تُطلى بالنورة من الداخل وتزين ببعض الرسومات، وفي ليالي رمضان يقوم الحكواتية بقراءة السيرة النبوية الشريفة، وقصة الإسراء والمعراج، فكان يستهويني الاستماع إليها بشغف مع احتساء أكواب الشاي الملبن بسكر زيادة.
والحقيقة أن تلك القيم العظيمة التي تربينا عليها انا وجيلي، ونحن أطفال صغار، صارت لنا حِصنا بعد أن كبرنا في العمر، وأعطت ولاتزال تعطي لحياتنا معنى وقيمة، وقدرة على مجابهة صعوبات الحياة وتقلبات الأزمنة، وحمتنا من الانحدار نحو النهايات الفاجعة.
والحقيقة أن الصوم، يمنح المرء قوة كبيرة لمواجهة إغراءات الحياة التي لانستطيع مجابهتها في بقية الأشهر من السنة، ويجعل المرء يرتقي بعباداته إلى مصاف وموانئ وشواطئ وسماوات أخرى لايمكن بلوغها في الايام العادية، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: “ كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا اجزي به”
رمضان كريم .. كل عام وانتم بخير.