.jpeg)
لم يستطع بُعدي عن الديس الشرقية عقوداً، أن ينسيني البلدة التي ترعرعت فيها، القويرة، وبيوت الطين، والشبابيك المضيئة في الليل، تبدو كأنها قلب ينبض في عالم من السكون . والشوارع والمطاريق المضاءة بضوء القمر وظلاله التي تتراقص فوق الأرض الندية. الصيق، والنخيل، والمياه الكبريتيةالساخنة، ووجوه أهلي وناسها الطيبين .
وعلى الرغم من انني عشت في مدن وعواصم وبلدان كثيرة لكن قلبي يظل مشدوداً دائماً إلى هناك، إلى تلك البلدة، شرقي حضرموت..إلى زمن الصبا، أصدقاء الطفولة، وزملاء الابتدائية، إلى ألعاب الأولاد في الليالي المقمرة، وألعاب الكبار في الأعراس والأعياد؛ العدة والشبواني والبرع، والحفة. إلى العَيْدَة والخبز الدهرة، والتمر والقهوة.. “احن إلى خبز أمي وقهوة أمي”لازال طعمها في فمي، وإلى درويش. إلى روحانية المساجد وصلاة التراويح وليالي الختم، وتلاوة القرآن بصوت الشيخ عبدالله سعيد غانم الرخيم..إلى مدفع الإفطار، وصوت المسحراتي يوقظ الديس للسحور...إلى انتظارها في العشر الأواخر من رمضان لليلة القدر.إلى العواد السنوي، وعواد بيت بحاح، إلى طيور السنونو وهي تعود من هجرتها من عدن والكويت ..إلى مخزن الحكايات وأخي محفوظ المسحور بالكتب والذي ورثت منه حب القراءة..
إلى ميناء القرن وبحر شرمة والسلاحف الخضراء النادرة التي امتطيتها يوماً في عبث طفولي وهي تزحف في طريق عودتها من الشاطئ حيث وضعت بيوضها إلى المحيط الشاسع الذي جاءت منه . إلى الشمس التي لاتشبه اي شمس، والقمر الذي لايشبه أي قمر والبحر الأجمل من أي بحر . وليلها الهادئء..
هل هي فعلاً كذلك أم انني الذي أشكلها بمزاجي، وأراها بعين الحبيب ؟
إلى حصن الدولة ببهائه الأبيض وحضوره البهي رمزا للتاريخ وللحكم، للسور العتيق الذي كنا ندلف من سدته إلى غابة النخيل، نلتقط ما ألقته ريح المساء .إلى السوق القديم والدكاكين الصغيرة المتلاصقة التي نشتري منها مؤونة الشهر واليوم، دكان برقعان، ودكان عمر بلخير. وفي السوق، محل العماري لصياغة الفضة، والاسكافي لصناعة الاحذية والحقائب والأحزمة الجلدية، ومصبغة لصبغ ملابس البدو. ومحل لصيانة واصلاح الساعات. وككل الاسواق لايخلو من مقهى، ومشرب، ومطعم صيادية، ومحلات لبيع الحلوى، والسامبوسة والباجية. ومستودع لبيع الحطب الذي كان الوقود للتنانير وطهي الطعام. وفي نهاية السوق سوق السمك الذي يصل طازجاً على اكتاف الصيادين من بحر القرن .
هل تعرفون ان أجمل المدن هي تلك نبتعد عنها ؟ نرى فيها حين لانكون فيها، أشياء لم نكن نراها فيها، جمالاً لم نكن نقدره. نتذكر حتى الأشياء الصغيرةفيها، حتى تلك التي لم تكن تلفت انتباهنا! ، لكن من على البعد تكتشف انها تسكن في القلب، وكل شيء فيها يتحول إلى حنين تعزفه هرموناتك الداخلية ويتحول إيقاعات موسيقية سخية وجميلة ورائعة، تقول لك من حق هذه المدينة..هذه الديس أن تحبها حتى النخاع وان الفراق يكون قاسياً، خاصة عندما يمتد كل هذه العقود وأنت تتذرع بشتى الذرائع، بعضها حقيقي، والبعض لا، وفي كل مرة تقول غداً أعود، بعد غد. السنة القادمة، بعد سنتين، ثلاث. كرت السنون وصارت عقودا، والصبي الذي غادر الديس صار شيخاً فوق السبعين.أتعبتك الغربة يامسكين وأنت تطارد حلماً هارباً يفلت منك كالزئبق كل السنين، واتعبك اكثر الناس الذين كانوا يسرقون منك الحلم في كل مرة اقتربت منه، استثمروه دون تعب، ودون أن يدفعوا الثمن !
اليوم أستطيع أن اقول لك أيها الوطن البعيد، أيها الديس، انك كنت دوماً أقرب إلى قلبي كلما ابتعدت، أجدك دائماً قريباً مني مهما نأيت. انت تلك الحروف الجميلة التي تتكون منها بذرة الوطن .. الغابة الكثيفة الأشجار، الديس الذي كلما ابتعدت عنه زاد اقتراباً واتساعاً. العتبة التي دخلنا منها إلى الحياة، قبل أن تسرقنا المدن المزخرفة .. الطين الذي خلقنا منه وإليه نعود ..