
الزيارة، بهذا المعنى، ليست مجرد رسالة دبلوماسية، بل مؤشر على تغيّر قواعد الاشتباك بين الرياض وطهران. ويأتي توقيتها في لحظة لافتة، إذ يعيش الإقليم ما يمكن وصفه بـ”تعب استراتيجي”، حيث لم تعد العواصم الكبرى راغبة في استنزاف مواردها في صراعات مفتوحة، بل تتجه نحو إعادة تموضع يسمح بالتركيز على الداخل وتحصين المكتسبات. في هذا السياق، تسعى السعودية، في ظل رؤيتها الطموحة للتحول الاقتصادي والاجتماعي “رؤية 2030”، إلى بيئة إقليمية أكثر استقراراً، ولو على قاعدة “الهدوء المشروط”. أما إيران، المثقلة بعقوبات اقتصادية وضغوط داخلية متزايدة، فترى في الانفتاح على الرياض منفذًا لفك بعض حلقات العزلة، ولو بشكل جزئي.
غير أن جوهر الزيارة لا يمكن فصله عن الملف اليمني، الذي ظل حاضرًا دومًا في تفاصيل الاشتباك بين الطرفين. لم يكن حضور السفير محمد آل جابر حضورًا عرضياً فهو حامل القلم في هذا الملف، وصاحب الخبرة والعلاقات الواسعة ميدانيًا وسياسيًا لأكثر من 14 عاماً. بل هو حضور يشكل رسالة واضحة بأن اختبار النوايا الإيرانية في اليمن يأتي على رأس أولويات الرياض في أي مسار تقاربي.
وهنا يُطرح سؤال جوهري: هل تمتلك طهران القدرة — أو الرغبة — في التأثير الفعلي على الحوثيين لدفعهم نحو تسوية مستدامة؟ أم أن الأمر لا يتجاوز محاولة لتبريد الجبهة، بانتظار جولات حرب أو تفاوض لاحقة؟
ما يجمع الطرفين حالياً، رغم التناقضات العميقة، هو إدراك متبادل بأن “التفاهم المرحلي” قد يكون أفضل الخيارات المتاحة. فالرياض لا تنظر إلى طهران كشريك موثوق، لكنها تقرّ بضرورة التعامل معها، فيما لا تتنازل طهران عن طموحاتها الإقليمية، لكنها باتت أكثر واقعية في تسويق نفوذها وتخفيف حدّة الصدام.
وهنا تبرز تساؤلات أكبر: هل نحن أمام تحوّل بنيوي في العلاقة بين القوتين الإقليميتين؟ الإجابة الأقرب للواقع: لا ليس بعد. ما يجري هو محاولة لإعادة تعريف العلاقة ضمن إطار أقل تصادمًا وأكثر قابلية للإدارة. والتصالح، إن وُجد، فهو تصالح الضرورة لا تقارب القناعة. وما نشهده اليوم ليس إعلان نوايا، بل ترتيب أوراق. ومع ذلك، لا يمكن التقليل من الأبعاد الاستراتيجية لهذه الخطوة. فاستمرار هذا المسار، ولو بوتيرة حذرة، قد يسهم في إعادة تشكيل النظام الإقليمي على أسس أكثر براغماتية.
في الخلفية، يلوح البرنامج النووي الإيراني، كأحد أكثر الملفات حساسية. بينما تسعى طهران للعودة إلى الاتفاق النووي أو تحصيل مكاسب استراتيجية دونه، تشعر السعودية أن ميزان القوى الإقليمي بحاجة لإعادة ضبط، يراعي أمن الخليج كأولوية. والشروع في التفاهم على آليات “إدارة التوتر” دون انتظار تفاهمات كبرى مع الغرب. فالدبلوماسية الوقائية باتت ضرورة، وليست نوعًا من الترف.. فقد شهدت روما محادثات بين مسؤولين إيرانيين ودبلوماسيين أوروبيين بوساطة إيطالية ودفع أمريكي غير مباشر، ما يعكس توجّهًا دوليًا لإعادة ترتيب الأولويات الإقليمية، وربما دمج قنوات الحوار في مسارات متعددة. اللافت أن الرياض لم تُعارض هذه المحادثات، بل بدت منسجمة مع روحها، في سياق يشير إلى أن السعودية لا تمانع حوارًا أوسع، طالما أنه يضمن مصالحها ويعيد ضبط التوازنات من موقع القوة لا التنازل.
في موازاة ذلك، تتهيأ الرياض لاستقبال الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أول زيارة له بعد فوزه الانتخابي هذا المعطى يحمل دلالات استراتيجية، خاصة أن ترامب يعرف تمامًا حجم الاستثمارات الخليجية في الولايات المتحدة. من جانبها، تدرك السعودية أن الانفتاح على إيران لا يعني بالضرورة فكّ الارتباط مع حلفائها الغربيين، بل هو جزء من سياسة “التحالفات المرنة” التي تمنحها هامش مناورة أوسع، دون التورط في محاور مغلقة أو جبهات مكلفة.
وفي ظل تصاعد التصريحات الإسرائيلية بشأن البرنامج النووي الإيراني، يبدو أن السعودية باتت أكثر ميلاً إلى تبني منطق “إدارة التوتر” بدلاً من تصعيده، خاصة في ظل غياب آفاق واضحة لتفاهم نووي شامل. التهدئة هنا ليست تراجعًا عن الموقف، بل إعادة تموضع محسوبة في زمن تتداخل فيه الجبهات، وتتشظى فيه الولاءات.
خاتمة: زيارة وزير الدفاع السعودي إلى طهران تمثّل لحظة فارقة؛ لا لأنها أنهت الخلاف، بل لأنها غيّرت لغته، من الصدام إلى الرسائل، وسحبت الأطراف من مربع المواجهة والحرب بالوكالة إلى مربع السياسة، ومن السجال الإعلامي إلى إدارة الملفات الحساسة بحذر. إنها خطوة صغيرة في ظاهرها، لكنها تحمل دلالات كبيرة على مسار الشرق الأوسط الجديد — مسار تتشكّل معالمه بين الواقعية السياسية، وضغوط الداخل، وطموحات المستقبل..
ولنا لقاء.
*دبلوماسي يمني - عضو بعثة اليمن في الاتحاد الأوروبي