فبكل شجاعة وإصرار خرجت الجماهير في عدد من المدن الليبية، ومنها طرابلس وبنغازي ودرنة، داعية إلى التأكيد على بناء الدولة ومؤسساتها ورافضة لأي قوة عسكرية ولأي تجمع مهما كان اسمه يعرقل مشروع الدولة، وفي مقدمة هذا المشروع أركانه الأساسية: الشرطة والجيش والقضاء والإعلام.
وقد سالت دماء في تلك المظاهرات وسقط أبطال لتعبد الطريق الصحيح نحو بناء دولة القانون والعدالة، ونجحت المظاهرات بقوة وصحة شعاراتها في تحقيق هدف كبير وهو «عزل المجموعات المعرقلة لعملية بناء الدولة»، وأصبحت تلك المجموعات مكشوفة وعاجزة عن تقديم أي خطاب مقنع للشعب الليبي الذي مل من كل مظاهر السلاح خارج شرعية السلطة الواحدة، ومل من كل الشعارات المنافية والمعارضة لرغبات الشعب.
وهذا التطور الشعبي في مظاهراته السلمية يؤكد على تطور في الوعي السياسي الذي جاء نتيجة لأكبر مكسب لنجاح ثورة 17 فبراير (شباط)، وهو مكسب الحرية، فالجميع يتحدثون ويناقشون ويكتبون ولا أحد يلاحقهم ولا أحد يعتقلهم ولا أحد يرهبهم باسم السلطة. وقد تطورت مواقف الشعب الليبي في شكل اجتماعات واحتجاجات وتدافع للتصدي لأي طرف حاول أو يحاول التعدي على مصادر دخل الشعب وهو حقول النفط ومراكز إنتاجه وتصديره، فمن تسول له نفسه وأفكاره الابتزاز وفرض مطالبه بهذا الأسلوب على الشعب الليبي سيكون هو الخاسر الأكبر، لأن ما سيلحق بهذا الشعب من معاناة ومن فقر ومرض وجهل سيرجع غضبا وكرها ورفضا لمن كان السبب ومن كان يفكر ويخطط ويعمل خارج مؤسسات الدولة وخارج مصالح الناس اليومية.
كذلك قال الشعب الليبي كلمته عبر مؤسسات شرعية ومؤتمرات وعبر دار الإفتاء، إن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع وأن الدستور الذي سيكتب قريبا عن طريق هيئة منتخبة سيؤكد على ذلك، وبذلك فلا حق ولا حجة لأي شخص ولا أي حزب أو جماعة أن تزايد على الشعب باسم الإسلام أو باسم الشريعة، فكل الشعب الليبي المسلم متفق على هذا الخيار، فالإسلام متجذر في ليبيا بقيمه وتقاليده السمحة والإنسانية ولا توجد في ليبيا تيارات تعلن رفضها للشريعة، وبسبب هذا الإجماع فقد قُطع الطريق أمام أي صوت يخالف هذا الإجماع أو يفسر الأمور كما يشتهي وحسب خلفية حزبية أو انتماءات مدرسية متعصبة لنهج خاص يرفضه جمهور الأمة وجمهور فقهائها وعلمائها.
بهذه الروح الجماعية وبهذا التوجه العام يكون الشعب الليبي بكل قواه الفاعلة يتجه الآن لوضع اللبنات القوية في أسس الدولة الليبية الحديثة التي ستكون واعدة للجميع، وبهذا الإجماع سيواجه الشعب الليبي برجاله ونسائه التحديات الكثيرة التي تتطلب مراعاة الزمن، حيث يستحيل بناء الدول ومؤسساتها في شهور أو سنوات قليلة، فالتعامل مع مشكلات ومتطلبات ما بعد الحرب والثورة هو أصعب من إسقاط النظام الظالم. ومن حظ الشعب الليبي توفر الثروات الطبيعية التي ستساعده في التسريع في عملية البناء بشرط تزايد الوعي الضروري وتطوره لحماية المؤسسات الشرعية، لتتمكن من العمل في أجواء مناسبة من السلام والأمن، ويمكن للإعلام أن يقوم بدور مهم وفاعل في دعم مهني لهذا التوجه الشعبي الذي يطالب بقوة بالتسريع في بناء الدولة ومؤسساتها وعزل كل من يخالف هذا الإجماع الشعبي ويعرقل بناء الدولة.
إن بناء الدولة ومؤسساتها ونجاحها مكسب للجميع، وفشلها خسارة للجميع.