ومع التراكم التشطيري والتداخل الوحدوي، والتصادم الوطني ، والتعارض الفئوي.. أصبح الطابور ثقافة أو محددات سياسة متحضرة. وهناك الطابور الخامس الذي اشتغل ، بقوة ، في أيام الربيع العربي المزعوم والملغوم ، وطابور طويل للسيارات والمركبات أمام المحطات ويقضون ليلتين أو ثلاثاً .. استحق التسجيل في موسوعة جينيس للأرقام القياسية.. واستمر الحال ما يقرب من عامين.
طابور البطالة الذي يزداد طولاً وعرضاً وأفقياً وراسيا كل يوم، ويحمل أصحابه أقسى الهموم، وترى ، على ملامحهم، الوجوم الذي دائماً في فضاءاتهم يحوم، ومافيش في أيامهم .. مطر وغيوم.
وطابور المنظرين والمثقفين الانتهازيين والفاشلين والحاقدين الذي يتوسع.. في كل لحظة وفي كل دقيقة ليطمر علائم الحقيقة بالكلمات الناعمة الدقيقة بدعم سخي من الدول الشقيقة، وشوية لوجستيات من البلدان الصديقة التي تقذفك بمالا تحبه، ولا تطيقه.. هو طابور مثقفي الدفع المسبق الذي يشوه الحقائق، ويزين الوقائع، ويسوق للسم الثقافي الناقع .. في تضاريس هذا الواقع الذي يتبادلون فيه المواقع، وقد اتسع الخرق على الرقع.
غزتنا ثقافة الطوابير، وصرنا نتفاعل معها، ونتماهى مع مظاهرها في أحيان كثيرة بشيء من الحميمية ، وممكن تغني مع المرحوم محمد رشدي صاحب عدوية، وتضيف كما تريد :
في أيدي المزامير
وفي قلبي .. المسامير
الحكومة غلبتني
ورمتني بالطوابير
وتزعجني المواطير
وما عادناش الشاب الأمير
ولاعاد اصحي بكير
مسيرات كلها تكسير
أشوفها تكذب كثير
وترفع شعار التغيير
وحياتنا .. بلا تفكير
ومليانه كثير تكفير
كل يوم فيها تفجير
ونتحامل نقوم نسير
وفي طابور الصباح .. القسم بالوحدة كشعار، وعند التنفيذ أعنف شجار، وأسوأ عوار .. لم يبلسمه أحد حتى مؤتمر الحوار .
طوابير على مؤتمر الحوار ، وأعضاء اللجان أمام الصندوق أو المحاسب، وعلى كل شيء تشتم منه منفعة ما ، ولو كان حراماً.. و ( شي عيشه ) على قول البدو . وأبين في الحرب وفي أثناء النزوح ، وما بعد النزوح كانت الطوابير حاضرة، ويكون فيها تناوب ، وتلاعب أحياناً بالحصص الغذائية من قبل بعض اللجان، وتباطؤ فتح أسواق سماسرة المتابعة.. تحضر الثالثة صباحاً ولاتتوفق لأربعة أو لخمسة، وغضب ، وإطلاق نار.. الناس توحشت، واكتفي بالإشارة إلى أن هناك طوابير الحصول على الكرت في الكود والتسلم في جعار .. أي غباء أو أية سادية؟! الطبل في الحوطة والشرح في سفيان على قول المثل اللحجي.
طوابير في معظم أحوالنا.. واستغرب لماذا لم يقم أي فنان بالتقاط فكرة أو أفكار من المشهد الجمعي الطابوري؟! .. وممكن يغني على طريقة الراحل الجميل طلال المداح :
طوابير .. يا قلب العناء
طوابير وأيش ذنبي أنا
طوابير ، وتمضي حياتي
طوابير .. وأتمنى الهناء
ولو فعلها لكسر السوق، لايتوفر عندنا مطربون شعبيون من فصيلة دم شعبان عبدالرحيم، وإلا كان أنزل شريطاً ينتقد أو يسخر فيه من البلاوي اليومية من الصباح.. إلى آخر الليل والضنا والويل ، والكيل بمكيالين.
وكذلك أين الشعراء والقاصون وكل المبدعين ليستلهموا مضامين ساخنة، وإلماحات لافتة من وحي ظاهرة الطوابير التي اقتحمت حياتنا كثقافة - مستوطنة بكل فيروساتها البسيطة والفتاكة؟!.. حولونا إلى شعب شحات .. يقتات على المعونات ، أو يسفك دمه على الطرقات، أو يتغدى على كوم شعارات .. مع حلاية شوية تنظيرات، أو يتلقى من الكفيل عدة لطمات، وقابلوني في حرض!
إيماءة
كل الطوابير عشوائية ، والطابور الوحيد المنتظم.. طابور قائمة الاغتيالات .. لطفاً كم ترتيبك ؟ وهل كتبت الوصية أم أنك نسيت أنك في زمن شراهة البندقية وكاتمات الهوية؟!
لماذا ؟!
أيها المثقف اليمني المبدع.. الظاهرة الطابورية.. لماذا فاتتك؟ المبدع الحقيقي يبحث عن الأحداث، وإن لم يجدها يختلقها، وهاهي تتراقص أمامك كعروس حسناء.. رخيصة المهر، و ( بعد هذا ما تريد .. قل بربك ما تريد؟! ).
مثل
( إنما الحيلة في ترك الحيل )
آخر الكلام
فسرتُ نحوك لا ألوي على أحد
أحثَُ راحلتي : الفقرَ والأدبا
أذاقني زمني بلوى شرقتُ بها
لو ذاقها لبكى ما عاش وانتحبا
( المتنبي )