وبالنظر إلى ما قدمته إمارة ( طالبان ) في أفغانستان والإمارات التي أقامها تنظيم (القاعدة) في بعض مناطق العراق وباكستان والصومال ومالي وسوريا وجبل الحلال في شمال سيناء من ممارسات تطبيقية لأفكار الحركة الصحوية السلفية ومشروعها السياسي الذي تسعى إلى تنفيذه بواسطة الدعوة أو القتال أو كليهما معـا، فقد سلطت فتوى الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي التي أصدرها ـــ رحمه الله ـــ في أكتوبر عام 2000م، وأعدنا نشرها كاملا في مقالنا السابق ، أضواء كاشفة على مخاطر المشروع السياسي المتطرف للفكر السلفي الذي ألحق خسائر مدمرة بالشعب الأفغاني وشعوب المناطق التي ابتليت بسيطرة هذا الفكر عليها مؤقتـا، ناهيك عن الخسائر التي تكبدها العديد من دول العالم بسبب الطبيعة العدوانية والإرهابية لهذا المشروع التكفيري بشقيه الدعوي والمحارب.
والحال أن الفتوى التي أصدرها الشيخ بن عقلاء بشأن إمارة (طالبان) لا تختلف في الشكل والمضمون عن مختلف الفتاوى والآراء والأفكار الصادرة عن الآباء الروحيين للحركة الصحوية السلفية الذين سبقت الإشارة إليهم في مقدمة هذا المقال.. فالحكومة الإسلامية الشرعية عند هؤلاء هي تلك التي يقيمها المجاهدون في أي بقعة تدين بالإسلام حتى ولو كانت جزءا متمردا من دولة عضو في المجتمع الدولي وتلتزم بميثاق الأمم المتحدة والمواثيق الدولية، وما تحتاجه هذه الحكومة في حال قيامها (( هو الدعم المالي من المسلمين لمساعدتها في حربها على معارضيها )) بحسب الفتوى التي نشرناها الاسبوع الماضي في مقالنا السابق .
أما أهم ما يعطي المشروعية للحكومة الإسلامية التي تقيم حكم الله ولا تعمل بالدساتير والقوانين الوضعية بحسب فتاوى الآباء الروحيين لشيوخ وتلاميذ الحركة الصحوية الاخوانية والسلفية في اليمن والعالم العربي والاسلامي ـــ وفي مقدمتهم الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي ـــ فهو (الاهتمام بمناصرة المجاهدين في سبيل الله ومن أجل أن يكون الدين كله لله في ديار الأرض وهذا مشهود لحكومة «طالبان» ) بحسب الفتوى التي تشير أيضـا إلى شروط أخرى تعطي الشرعية الدينية لحكومة طالبان ومن بينها (( أنها الدولة الوحيدة التي لا تعترف بما يسمى القانون الدولي والمواثيق الدولية ولا تلتزم بالدساتير والقوانين الوضعية ولا توجد فيها محاكم قانونية، وإنما حكمها قائم على شرع الله في المساجد ومجالس العلماء)).
وفي سياق إشادته بالمناقب التي تمنح حكم «طالبان» الشرعية الدينية، تغمز فتوى الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي وتلمز في شرعية الحكومة السعودية وغيرها من حكومات البلدان العربية والإسلامية بقوله عن إمارة طالبان : (( أما ما عداها من الدول الإسلامية فمنها من تحكم بالقوانين الوضعية الصرفة، ومنها من تدعي تطبيق حكم الله ورسوله مع ما يوجد فيها من محاكم قانونية صرفة)) .
ثم يفرط صاحب الفتوى في الغمز واللمز بقوله: ( وحتى المحاكم الشرعية في مثل هذه الدول يكون معظم أحكامها قائمـا على التنظيمات والتعليمات التي من وضع البشر، فلا فرق بينها وبين القوانين الوضعية إلا بالاسم) . وتبلغ الفتوى ذروتها بقوله: (( ومن الأدلة على أن حكومة «طالبان» حكومة شرعية كون الدول الكافرة لا تعترف بحكومة طالبان بل تعاديها وتفرض عليها الحصار الاقتصادي وتمنع التعامل معها بسبب إعلانها التمسك بالحكم بما أنزل الله، وعدم اعترافها أو التزامها بالقانون الدولي والمواثيق الدولية التي تساوي بين دولة الإسلام والدول الكافرة.)) .
وقد ذهب تلاميذ الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي وغيره من الآباء الروحيين للحركة الصحوية السلفية في السعودية واليمن ودول الخليج، هذا المذهب عندما بلور عدد من الشيوخ السلفيين الحركيين مشروعـا متكاملا لطلبنة السعودية من خلال توجيه مذكرة النصيحة في بداية التسعينيات من القرن العشرين المنصرم، ومذكرة المطالب في عام 2003 إلى الحكومة السعودية، حيث طالب الموقعون على هاتين المذكرتين بإعادة بناء الدولة السعودية على أسس تمنحها المشروعية الدينية التي أوضحها الشيخ بن عقلاء الشعيبي في فتواه التي عرضناها في مقالنا السابق بشأن حكومة «طالبان» وكان أبرز ما تصدرته تلك المذكرتان هو المطالبة بإلغاء ما أسموه القوانين الوضعية في السعودية.
وفي الاتجاه ذاته كرر شيوخ الحركة الصحوية الاخوانية والسلفية في اليمن ما جاء في مذكرتي (النصيحة) و(المطالب) الصادرتين عن زملائهم في السعودية، حيث طالبوا الرئيس السابق علي عبدالله صالح في عدد من البيانات بإلغاء ما أسموها ( القوانين الوضعية) التي تبيح عمل المرأة كوزيرة وسفيرة وقيادية وعاملة في الدولة والمؤسسات والشركات والمصانع والجامعات والمطارات والموانئ ووسائل الإعلام والأجهزة العسكرية والأمنية بذريعة أن عمل المرأة خارج البيت يؤدي إلى الاختلاط بالرجال وانتشار الفسوق واولاد الزنى، كما طالبوا بتحريم الموسيقى والغناء ومنع تولي النساء وظائف الولاية العامة واستنكروا توجه الحكومة لإصدار تشريعات جديدة بهدف تحقيق المساواة بين دية المرأة القتيلة والرجل القتيل، وتحديد سن للزواج، ومنع نكاح الطفلة الصغيرة ومفاخذة الطفلة الرضيعة، وهو ما يراه شيوخ الحركة الصحوية الاخوانية والسلفية في السعودية واليمن تقييدا لحق سمحت به وأباحته الشريعة الإسلامية ،على نحو ما طبقته حركة «طالبان» استنادا إلى آراء فقهية وضعية يجري تعريف الشريعة الإسلامية حصريـا بموجبها.
وقد سبق لنا القول في مقالات سابقة بأن القوى المدنية في اليمن لم تكن وحدها من رفض نهج إمارة «طالبان» الظلامي، وأدانت سياساتها المعادية لحقوق الإنسان والمهينة لكرامة المرأة والمسيئة لصورة الإسلام ومقاصد الشريعة الإسلامية، فقد شاركها كثير من قادة الدول والحكومات والأحزاب والمنظمات غير الحكومية وأنصار الحرية والسلام العالمي بما في ذلك ملايين العلماء والكتاب والمفكرين والصحفيين والفنانين والرياضيين ورجال الدين المستنيرين في جميع أنحاء العالم الإسلامي، حيث بقيت إمارة «طالبان» معزولة خارج إطار المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ولم يعترف بها حتى عشية سقوطها سوى باكستان المجاورة؛ لأنها كانت صنيعة أجهزتها الاستخبارية.
والمعروف أنّ أسامة بن لادن كان يقود من أفغانستان أثناء حكم «طالبان» حركة دعوية ومسلحة في آن واحد للمطالبة بما أسماه تطبيق الشريعة الإسلامية في السعودية وإيقاف العمل بما أسماه «القوانين الوضعية» حيث أشار في العديد من خطبه المتلفزة ومقابلاته الصحفية إلى أن الشريعة لا تطبق في السعودية والدول الاسلامية وفق ما يقوله من أسماهم «علماء الشرع» بل وفق أحكام وضعية تتجنب إطلاق صفة القوانين عليها، بل تسميها (أنظمة ومراسيم وتعليمات ولوائح تصدرها الحكومة السعودية التي يرأسها الملك).
وكان المفكر السعودي الدكتور محمد المغربي قد رد على أفكار بن لادن في كتابه الشهير (حركة التدوين والتشريع في المملكة العربية السعودية .. ص 443 بالقول : إن اكتشاف الثروات الطبيعية، بعد قيام الدولة السعودية أسهم في تعزيز انفتاحها على الاقتصاد العالمي، وتغيير نمط الحياة في المجتمع، وبروز الحاجة لوجود تشريعات وضعية تبيح وتنظم استخدام أجهزة الراديو والهاتف والجرامفون والتصوير والبنوك والشركات ووسائل الاتصال والمطابع والمطارات والموانئ الحديثة ، وتحديد واجبات وحقوق الجنسية والمواطنة، وحقوق وواجبات المقيمين الأجانب، وأصول المحاكمات والمعاملات التجارية البرية والجوية والبحرية، والضرائب والرسوم الجمركية، والعلم الوطني وأعلام الدول الصديقة والشقيقة، والخدمة العسكرية، وتنظيم القضاء وتشكيل المحاكم وتحديد اختصاصاتها ووظائفها، وصولا إلى التشريعات التي تحمي الحقوق الفكرية وحقوق العاملين في السفارات والقنصليات الأجنبية والمصالح المتبادلة بين الدولة السعودية والدول الأخرى. وقد تعرضت هذه التشريعات ولا تزال تتعرض لمقاومة شيوخ الحركة الصحوية الاخوانية والسلفية الذين يعتقدون بأنها تنطلق من مفاهيم لا وجود لها عند الفقهاء الأسلاف الذين كانوا يميزون في المعاملات والحقوق والواجبات بين أهل (دار الإسلام وأهل دار الحرب) ويرفضون المساواة في حقوق التقاضي بين أهل دار الإسلام التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الشريعة الإسلامية، وأحكام دار الحرب التي لا تقام فيها شريعة الله ولا تظهر فيها وإنما تقام فيها أحكام الكفر.
ولا ريب في أن المتغيرات الناجمة عن رياح العولمة في عصر ثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات أحدثت صدمة للقوى التقليدية ولعبت دورا بارزا في صعود الحركة السلفية الدعوية والجهادية التي اتجهت نحو تكفير الدولة والمجتمع، إذ رأت في الانفتاح على قيم العولمة وأدواتها خروجا عن صراط الدين وتصادما مع الشريعة، ما أدى إلى إضفاء أبعاد تكفيرية جديدة على الخطاب الصحوي الاخواني والسلفي، تفاوتت بين تطرف جناحها الجهادي المسلح وتظاهر جناحها السياسي والدعوي بالاعتدال .
تأسيسا على ذلك يمكن القول إن التوغل التدريجي في هياكل الدولة والعمل على أخونتها يعد خطوة أولى وحيوية في إستراتيجية الاستيلاء على السلطة بعد أن تحولت الحركة الصحوية الاخوانية والسلفية إلى حزب منظم ورسمي في اليمن ومنظم غير رسمي في السعودية، يضع في صدارة أهدافه فرض الوصاية على الحكام والأحزاب ، وصولا إلى التمدد في أجهزة السلطة والنزوع للسيطرة عليها على طريق إعلان ولاية وسلطة أكليروس الفقهاء السنيين ،التي تقابلها في الضفة الأخرى سلطة و(ولاية الفقيه ) الشيعي الإثناعشري !!
والحال أن الإستراتيجية الصحوية الإخوانية كانت ـــ ولاتزال ــ تتبنى في برامجها وشعاراتها السياسية خيار التغيير التدريجي، وتوظيف الأزمات السياسية والمصاعب الاقتصادية والاستفادة منها لإضعاف السلطة، وهو ما يفسر قيام الصحويين في السعودية واليمن بمواجهة الدولة والجهر بمطالبهم السياسية على غرار ما جاء في (خطاب المطالب) و(مذكرة النصيحة) التي وجهها عدد من الفقهاء السياسيين في السعودية ، بالإضافة إلى مذكرات أخرى وجهها إلى الحكومة اليمنية نظراؤهم في اليمن وآخرها مذكرة « تحريم الكوتا النسائية» ومذكرة «إباحة تزويج الأطفال الإناث»، والزعم بأن تلبية هذه المطالب سيؤدي إلى منع التصادم مع الشريعة الإسلامية ، وبالتالي قطع الطريق أمام الإرهاب وإعادة المتطرفين إلى حضن الدولة!!!!!
وبحسب الباحث السعودي الإسلامي سعود القحطاني في كتابه (الصحوة الجديدة للإسلام السياسي) والدكتور غازي القصيبي ــ رحمه الله ـــ في كتابه (حتى لا تكون فتنة) يمكن النظر إلى مذكرة النصيحة التي رفعها عدد من الفقهاء السياسيين الصحويين في السعودية أوائل التسعينات بوصفها الطلقة الأولى لمشروع طلبنة الدولة السعودية قبل أن تولد حركة وإمارة «طالبان» في أفغانستان، حيث يتضح أن الهدف الرئيسي لتلك المذكرة هو فرض وصاية فقهاء وملالي الحركة الصحوية الاخوانية والسلفية على كافة المجالات. فهم يطالبون برد كل أمر معضل إلى من يسمونهم (العلماء) ويقررون أن رجال الدين هم وحدهم (أهل العلم) الذين تحتاجهم الدولة لا غير، وما يترتب على ذلك من وجوب منح « فقهاء الاسلام السياسي» مكانة كهنوتية في الدولة المسلمة تجعل منهم أوصياء على الدولة والمجتمع بأسره، حيث شددت المذكرة على ضرورة (( أن يكون للعلماء مكانة لا تعدلها مكانة، وأن ترجع الأمة ــ حكاما ومحكومين ــ إليهم للحل والعقد والأمر والنهي وبيان الحكم الشرعي لسائر أمور دينهم ودنياهم )) !!!!!
وذهبت المذكرة إلى أبعد من ذلك حين طالب الفقهاء الاخوانيون والسلفيون في السعودية بواسطة (مذكرة النصيحة) بمراجعة القوانين والأنظمة القائمة في المملكة العربية السعودية لأنها تصادم الشريعة الإسلامية، والعمل على وضع قوانين وأنظمة (شرعية) بديلة(!!!!!)، ثم دعوا بعد ذلك إلى (إيقاف جميع أشكال الصرف على المجالات التي تعد شكلا من أشكال الإسراف والتبذير كالملاعب الرياضية والمعارض) كما طالبوا بـ ((إيقاف البنوك والقروض التي تحتسب الفوائد. ووضع سياسة إعلامية جديدة تركز على تحقيق المقاصد الشرعية للإعلام، وإيقاف المظاهر المنافية للآداب والسلوك والاختلاط ، ومنع بث الأغاني واستخدام المعازف وإظهار العورات في التلفاز السعودي))!!!.ووصلت مطالب المذكرة في قطاع الإعلام ذروتها حين دعا الفقهاء السلفيون الذين وقعوا عليها إلى ((إخضاع المادة الإعلامية لرقابة شرعية ومنع الجرائد والمجلات التي تروج أفكار الكفر والعلمنة والسفور والخلاعة والصور والرسومات)) .
واللافت للنظر أن المذكرة الموجهة من الفقهاء الاخوانيين والسلفيين السعوديين إلى الحكومة السعودية، خلصت إلى المطالبة بــضرورة (إذكاء روح الجهاد وحب الموت في أبناء هذه الأمة عن طريق المناهج التعليمية والإسلامية ) .. ومن جانبهم كان الصحويون الاخوانيون والسلفيون في اليمن قد حرصوا على الاستفادة من (مذكرة النصيحة) التي وجهها الفقهاء السياسيون في السعودية إلى حكومتهم من خلال إعادة نشرها في صحافة حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يقود ويوجه أحزاب المعارضة المنضوية في تكتل (اللقاء المشترك ) ، والترويج لها عبر الأشرطة الصوتية وخطب الجمعة في تلك الفترة.
واللافت للنظر أن يدعو أمير ما يسمى بتنظيم «القاعدة» الموحد في شبه جزيرة العرب إلى تخليص الشعوب الإسلامية مما أسماها (الجاهلية الجديدة)، وبناء المجتمع الإسلامي المثالي على غرار نموذج إمارة «طالبان» التي ( أقامت العدل وطبقت الشريعة الإسلامية واستنهضت فريضة الجهاد ضد فسطاط الكفر ومن والاه من الحكومات المرتدة و الطوائف الممتنعة ) بحسب قوله في الحوار الذي نشرته صحيفة ( الناس) القريبة من حزب (الإصلاح) مع أمير تنظيم (القاعدة) ، بعد الإعلان عن توحيد جناحيه في السعودية واليمن في مطلع عام 2009م.