وهذا هو الدور الحقيقى للأزهر، المنتظر منه والمؤمل والمعول عليه، بعيداً عن تلك المحاولة التى لا أعتقد أنها ستستمر لإقحامه فى صراعات السلطة ودسائس السياسة وألاعيبها. فليس لمثل هذا ينادى العقلاء من المصريين أزهرهم، إنما يطلبونه بملء الأفواه ليتصدى للأفكار والفتاوى والآراء والتصورات والمقولات الدينية الغارقة فى التطرف وفى الإسفاف وفى الاستهتار وفى خدمة السلطان وفى تدمير صورة المسلمين، والتى زاد طغيانها عقب الثورة ومع تقدم الإخوان نحو السلطة جارّين المجتمع كله إلى صراع مزعوم حول «الإسلام» وهو منه برىء، إنما هو صراع حول الجاه والنفوذ والثروة، ولا شىء غير ذلك.
ومع صراع الكثيرين على السلطة وقبلها على الفكرة، يرضى جميعهم أن يلتقوا تحت راية الأزهر، وعندها يلتزمون الهدوء، وكلما ضاقت واستحكمت حلقاتها كان فى باحته العريقة بعض الفرج، ولو حسنت النوايا وصدقت العزائم لكان كل الفرج. وعبر شهور خرجت من الأزهر أربعة وثائق مهمة عن المرأة والحريات العامة والحقوق الأساسية وحرية الإبداع ونبذ العنف. وكلها محاولات من هذه المؤسسة العريقة ذات المكانة العلمية والروحية فى «تسهيل» التقدم نحو «التوافق» الاجتماعى والسياسى، ونزع فتيل الاحتقان لمنع انفجاره فى وجوه الجميع ناراً تلظى لعنف ليس له من دون الله كاشف.
وليس هذا بغريب على الأزهر الذى يذكر الجميع دوماً أن أروقته شهدت على مدار تاريخ طويل تدريس المذاهب الإسلامية وآراء مختلف الفرق من دون تعصب ولا تزمت، حيث قدمها على أنها إما جزء من «تاريخ العلم الدينى» على الآخرين أن يعرفوا ما أتى به الأولون فى متنه وحواشيه، أو كجزء من شروط «الطقس الدينى» الذى به يتم الالتزام عند الكثير من عموم الناس ونخبتهم. لكن الأزهر ظل طيلة الوقت فى خط الدفاع الأول عن «المذهب السنى» فهو مرجعيته الأولى فى العالم أجمع، وهو بهذا يساهم فى تأمين مصر من صراعات مذهبية قد تنشأ مستقبلاً، لتزيد الطين بلة.
لقد تم تغييب الأزهر طويلاً عن الساحة الاجتماعية لثلاثة أسباب أساسية أولها: رهن إرادته فى كثير من الأحيان بإرادة السلطة السياسية، وهذه آفة عمرها نحو نصف قرن، حين صدر قانون الأزهر، ووضع عليه، جامعاً وجامعة، يد جهاز الدولة التنفيذى. وثانيها: تراجع المستوى التعليمى للأزهر، وانصراف جزء لا يستهان به من طاقته إلى التعليم المدنى، فتخرّج منه مدرسون ومحاسبون وأطباء ومهندسون ناجحون، لكن بخل على المجتمع بعلماء دين راسخين، إلا فيما ندر، الأمر الذى أفسح المجال لحفظة الكتب القديمة من أن يتسللوا إلى معتقدات الناس وتصوراتهم وطقوسهم الدينية وفق مسار بعيد عما تآلف معه الأزهر. والثالث هو: ضيق ذات اليد، فميزانية الأزهر ضعيفة لا تكاد تكفى التزاماته، بينما تدفق على التيار السلفى وجماعة الإخوان مليارات الدولارات على مدار عقود من الزمن، استخدموا جزءاً منها فى خدمة خطابهم الدينى، ونجحوا فى جذب كثيرين إليه، علاوة على ما وقع فى حجورهم من دون بذل أى جهد جرّاء تأثر المصريين العاملين فى السعودية، على وجه الخصوص، بالحالة الدينية هناك، تعبيراً وتدبيراً.
وبعد الثورة، وفى ظل ما نعيشه الآن من فوضى للفتاوى وتوظيف للدين فى خدمة السلطان بلا رادع ولا وازع ولا حتى علم ويقين، أصبح من الضرورى أن نساعد جميعاً الأزهر على أن يستعيد دوره، ويعزز ما تبقى له من حضور فى رؤوس الناس وقلوبهم، ويتمدد ليملأ الفراغات التى تركها خلفه، واحتلها غيره، ويريد أن يتأبّد فيها، ويدافع عنها ببالغ الجهد والمال، لأنه يدرك أنها الركيزة التى يقيم عليها وجوده ومصالحه ويستخدمها ليحافظ على السلطة.
لذلك من أجل التصدى للمشكلات التى يواجهها الأزهر رأت مجموعة من المنشغلين بالهم العام، الراغبين فى ألا ينحرف التدين عن الوسطية، وينحرف الخطاب الدينى عن الاعتدال، وتنزلق النوايا عن الاستقامة، أن يمدوا أيديهم لهذه المؤسسة العريقة، ولو بالنزر اليسير، فكوّنوا جبهة لدعم الأزهر، سعوا لتصبح «مؤسسة أهلية» تمثل ظهيراً شعبياً له، مستقلاً تماماً عنه، لكنه يساعد، على قدر المكنة والاستطاعة، فى أن يستفيد مجتمعنا من الطاقة الكامنة والمهملة، بفعل فاعلين، للأزهر، بحيث لا يقتصر اتصاله على الأحزاب السياسية التى تجتمع للتحاور فى مقر المشيخة أحياناً، فالأحزاب جميعاً لا تمثل إلا جزءًا بسيطاً من عموم الشعب، بل تنفتح علاقاته على الناس، ويكون هو صوت الدين إليهم، الذى تاقوا طويلاً إلى سماعه.
ولي شرف أن أكون واحداً من بين هؤلاء الذين ذهبوا وقابلوا فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، وناقشوا معه ما يمكن لتلك المؤسسة أن تقدمه لخدمة مسار الأزهر ومهمته الجليلة، لا سيما فى السنين المقبلة. يومها أنصتنا إليه وهو يشرح أوجاع الأزهر ومشكلاته، فوضعنا أيدينا على ما يمكن أن نساهم به، وما يمكن أن يكون نواة صلبة أو نقطة جاذبة لكل من يريد لأزهرنا رفعة وعلواً، فى وجه كل من تسول له نفسه أن يسيطر عليه فيوجهه نحو رؤية فقهية واحدة، يزعم أصحابها أنها الحق أو الطريق المستقيم، ويستعمله فى أن يكون مجرد بوق لتجميل قبح السياسة وشططها وخطل السلطة وتجبرها.
الهدف الرئيسى للمؤسسة هو مساندة الأزهر أو مساعدته على أن يؤدي رسالته بقوة واقتدار، أما الوسائل فهى عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، تنظيم قوافل دعوية يختار الأزهر الواعظين والدعاة فيها وتجوب مصر، من أقصاها إلى أدناها، ليسمع الناس صوت الأزهر المعتدل بعد طول غياب أو تغييب، وهي قوافل تقوم بمهمتين فى وقت واحد، تصحيح الخطاب الدينى بعد ما ناله من تشويه، وتثبيت إيمان عوام الناس بعد أن اهتز إثر ما ارتكبه الإخوان وبعض السلفيين من أخطاء وخطايا، أنعشت للأسف والحسرة الشديدة دعاوى الإلحاد، وأوجدت أرضية للتفلت أو التحلل من الالتزامات الدينية عند بعض الشباب، ممن يربطون الدين بالأشخاص والإيمان بالشيوخ.
وهناك أيضاً اعتزام على إصدار مجلة دورية تنشر دراسات ومقالات معمّقة تنطوى على رؤية دينية معتدلة، تفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، وتستجيب لأسئلة الواقع. وهناك نية لإصدار كتب فى طبعات شعبية، بأسعار زهيدة، لنشر مثل هذا الفكر.
ويعد البعض حالياً أفلاماً وثائقية عن الأزهر وبعض المسارات والرؤى من تاريخ الفكر والفقه الإسلامى المستنير، وهناك من يعد فقرات قصيرة متلفزة يعلق فيها الأزهريون على ما يطلبه الناس من علماء الدين من فتوى فى أمور حياتهم العامة، وهناك من يؤسس لموقع للمؤسسة على شبكة الإنترنت يستكتب علماء الأزهر وينشر آراءهم وفتاواهم ويفتح الباب أمام الجمهور لحوار بنّاء حول المسائل والقضايا الدينية. وربما يتاح المال والجهد مستقبلاً لمساعدة الأزهر على إطلاق قناة فضائية يشاهدها ويتابعها المسلمون فى مشارق الأرض ومغاربها.
وهناك عشرات الأفكار الأخرى التى يعتزم مجلس إدارة المؤسسة أن يتبناها بمرور الوقت ومواصلة الجهد وتوافر الإمكانات، لا سيما أن المؤسسة مفتوحة أمام كل من يريد أن يساند الأزهر لينضم إليها أو يساعدها بما فى وسعه.