يحاضرني ذات يوم مدرِس تعيس - جاء من القرن الماضي - عن سبب تقديم كلمة (التربية) على التعليم ، وأسهب - المسكين - في ذلك الشرح .. وكأنه يتفاخر بذلك المخترع العبقري والنابغة الذي وضع تلك التسمية البلهاء لإدارة جوفاء لا همَّ لمن فيها سوى أُمنية الركض السريع لأيام الشهر حتى يتمكن منتسبوها من قبض معاشاتهم في نهايته !!
كثير هم الذين سيغضبون ، وكثير من ستأخذهم - العزة بالإثم - مما أقول هنا ، ولهم الحق في ذلك ، ولكن لعل لي الحق أيضاً فيما أتطرق إليه من سببٍ لكتابةِ هذه السطور .. فبالله عليكم منذ متى تم اعتماد تلك التسمية؟ وكم نسبة نجاحها في الواقع ؟
أولم تعنى التربية بمفهومها الكبير الأخلاق من معاملة إنسانية في البيت والمدرسة والشارع وكل موقع ينتقل فيه الطالب أو يعايش به المجتمع ككل ؟ من منا - من المربيين الأفاضل - قد تطرق لأهمية التربية وهو منتصب في الفصل وأمام تلاميذه يحاضرهم عن النهي عن المنكر لما يدور حالياً بين حوارينا وأزقتنا الخلفية كالنظافة للأحياء والوحدات السكنية ورمي المخلفات في مكانها بدلاً من التباري بقذفها من النوافذ الخلفية للعمارات أو من أعلى المساكن الشعبية التي ملأت الجبال والمرتفعات في عدن ولم ولن يصل لها عمال النظافة يوماً ؟
من منا تفوه - ولو مرة - ليوضح لطلبته أن التربية لا تعني طاعة الوالدين وتقبيل يديهما ، أو الصلاة بأوقاتها دون التطرق لأهمية الحفاظ على نظافة المسجد والمسكن والمدرسة والحي، لما لأهمية ذلك للناس والصحة وتجنب الكثير من المتاعب ؟
التربية بمفهومها الكبير تعني الكثير أيضاً .. فالتربية الجمالية من الفروع المهمة والحيوية التي لا يستقيم أي مجتمع كان إن لم يكن قد خصص لها الحيز الوفير وخطط لها جيداً القائمون على بناء ونشأة أجيال الغد ، وأين نحن من ذلك اليوم ؟ وما أعددنا لبناء جيل اليوم وبناة الغد ؟
كم كنت أتمنى أن يتجرأ أحدهم - في إدارة التربية - لهذه المنطقة أو تلك للتخطيط ولو لحصة واحدة في الشهر لهذا الفرع من فروع التربية ( التربية الجمالية ) ، والقيام بزيارة بعض المواقع في داخل المحافظة كبراهين حية للطلاب عن أهمية النواحي الجمالية في حياتنا اليومية ومردوداتها غداً على حياتنا المستقبلية للأرض والإنسان - وهو الأساس - لبناء الأوطان !
هل انعدمت - لهذه الدرجة - ملامح الجمال في محافظة عدن لدرجة أنها غابتْ عن أعين أساتذتنا الأجلاَّء ؟ أم أن ذلك لا يندرج في المنهج التربوي أو التعليمي في الكتب التي يحتفظ بها الطلاب حتى نهاية العام لتصويرها لعمل البراشيم منها ، خدمة لمراكز التصوير المنتشرة التي يزدهر العمل فيها قرب أيام الامتحانات ؟؟
ودعوني أشارككم في تساؤلاتي الشقـيـة هذه .. كم مدرسة أو فصلاً قام بزيارة للمتاحف الوطنية أو صالات عرض للفنون التشكيلية أو قام معلم برحلة ترفيهية للطلاب للحدائق العامة ليشرح ويوضح لطلبته جمال الأزهار والورود والتشجير وتنسيق الحدائق وأهميتها في الناحية الجمالية للمدينة والحي ، وما يعكس ذلك في الحالة النفسية والصحية للفرد والمجتمع بشكل عام .
تفاءلنا كثيراً بافتتاح صالة المرسم الحر في مدينة التواهي ، وكنا على يقين بأن إدارة التربية ستكون أول من يشد رحيل طلابها لزيارة هذا المعلم البارز للتعرف على إحدى زوايا تربية الجمال والفن لدى أجيال الغد ، بل لعل منهم من سيعشق الفن ويتقدم لاحقاً للانتساب لمعهد الفنون حتى يتخرج مستقبلاً كمرب للجمال أو مدرس للتربية الفنية للأجيال اللاحقة .. ولكن لم يجد لدينا - كل من يحاول أن يزرع بذرة جمال - اي صدىً يذكَر لدى الآخرين !
ليعذرني الجميع ، فلو لم يكن هدفي التنبيه ولفتْ النظر لأهمية مثل هذا الموضوع ما تناولته ، ولولا يقيني الكبير بالدور المهم الذي تطَّلعُ به إدارة التربية لتربية النشء - الذي بدأ يتدهور بشكل ملحوظ - لما أشتد بي الغيظ وكتبتُ ماكتبت ، ولكن يحدوني الأمل بأن هناك العديد من التربويين بحاجة للتذكير ليس إلاَّ ، ولعل مشاغل الحياة اليومية والظروف المتعبة التي يعايشها غالبيتنا هي ما أخذت بعض أوقاتنا ومجهوداتنا .. ولكن لنا أمل كبير في أولئك العظماء من بناة الغد، وأمل لا ينقطع بأن الغد حتماً سيكون أفضل من اليوم ..