غضون
* في فترات الانحطاط الفكري والتراجع الحضاري كان رجال الدين يتعاملون مع النصوص الدينية الاصلية كمن يشغل أوقات الفراغ، ومع ذلك يعطون لانتاجهم ذاك أهمية.. فاذا وقفوا على قصة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم مثل قوله إنه رأى احد عشر كوكبا والشمس والقمر له يسجدان، ذهبوا يبحثون بحثا مضنيا عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف.. وكيف سجد له القمر والشمس؟ وفي خضم هذه المعركة (العلمية) تلاطمت أقوالهم.. يقول أحدهم الكواكب الاحد عشر هي الذبال وذو الكتفين وقابس والمصبح والصبوح والضياء والزهرة.. ويرد الثاني: لا.. بل هي الطارق وحوبان.. و.. و.. وليس من بينها الزهرة لانها (عاهرة) أصعدت للسماء بعد ان أغرت ملكين بفاحشة.. وفي الشمس والقمر اختلفوا أيضا.. يقول الأول: الشمس هي أمه راحيل والقمر أبوه اسحاق.. قال الثاني: لا.. بل خالته لأن أمه كانت حينها ميتة.. قال آخر: التي رآها هي عمته.. لقد شغلوا أنفسهم بمثل هذا الجدل، بينما يوسف عليه السلام حلم ذلك الحلم وهو يغط في نومه.. وهم قطعا لم يكونوا بقربه يرصدون الطيف.* ومن الطريف أيضا تفسيرهم لقوله تعالى (فأكله الذئب)، فقد تساءلوا: ما اسم الذئب الذي أكل يوسف. فقد قال أحدهم لتلاميذه: وقد اختلف السلف رضوان الله عليهم في اسم الذئب الذي أكل يوسف، والراجح عند الجمهور ان اسمه (حجونا).. فنبهه أحد التلاميذ: لكن يا شيخنا الذئب لم يأكل يوسف.. فكابر الشيخ على تلميذه وقال له: إذن هو اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.. وهكذا وبهذه الطريقة تخلص من اعتراض تلميذه.. وأطرف من ذلك ان احد أئمة الشيعة الكبيرين ادخل الذئب الذي لا وجود له الجنة مع جملة حيوانات، فروى الصادق أثرا يقول: لا يدخل الجنة من البهائم إلا ثلاثة: حمار بلعام بن باعور وذئب يوسف وكلب أصحاب الكهف!.ومن يتابع ما يعيد انتاجه رجال الدين المعاصرون عند نظرهم في النص الديني الأصلي يجد الأمرنفسه .. المرويات والأقوال التي انتجت في عصر الانحطاط الحضاري هي هي حاضرة اليوم بما في ذلك تلك التي لا تخلو من طرافة، فالتجديد عندنا يقتصر على مظاهر الحياة المادية.. الشوارع.. المساكن.. السيارات.. الملابس.. الخ أما فكريا وثقافيا فخارج العصر، وداخل عصر الانحطاط.* واذا كان هذا شأن رجال الدين في مجال اختصاصهم، فكيف سيكون في أمور السياسة؟ هذا معروف.. فخوضهم في السياسة هو ضرب من انتاج الفتن والأزمات.. فلماذا يصر السياسيون في السلطة والمعارضة على زجهم في قضايا ليست من شأنهم ولا قبل لهم بها، وتخويلهم القيام بسلطة ليست من حقهم والقيام بأدوار يفسدون بها الحياة السياسية ولا يصلحون.ولدينا الآن شواهد طازجة.. فالذين لا يحسنون سوى الكلام في سنن الوضوء والحيض والنفاس وتفسير الرؤيا والعلاج بالقرآن تحولوا إلى اضلع عوجاء بمجرد استدعائهم إلى دائرة السياسة.. فأكثر المشاكل التي تنتج اليوم في إطار الأحداث السياسية الجارية هي من صناعتهم.. والدليل على ذلك أن المعارضة تتهم من يسمون علماء السلطة، والسلطة تدين رجال الدين الموالين للمعارضة.. فالجميع غير راض عما يخوضون فيه رغم ان هذا الجميع في الطرفين اشتركوا في ادخالهم جنة السياسة.. كما ادخل جعفر الصادق تلك البهائم الثلاث إلى الجنة لتركل وتنهش وتفترس وتنبح.