لقد أثبت المجلس الانتقالي الجنوبي ومعه القوات الحكومية الجنوبية شراكة حقيقية وفاعلة على الأرض مع دول التحالف العربي، شراكة لم تكن يومًا شعارات أو بيانات مجاملة بل التزامًا ميدانيًا صلبًا لم يشهد خذلانًا أو تراجعًا وقد دفع الجنوب في مقابل هذه الشراكة أثمانًا باهظة من دماء أبنائه واستقرار مناطقه تنفيذًا للتعهدات والعهود وفي سياق معركة كبرى كان عنوانها المعلن تحرير صنعاء من قبضة جماعة الحوثي واستعادة الدولة. غير أن مسار هذه المعركة انحرف بصورة خطيرة لا بفعل الجنوب ولا قواه الحية وفي مقدمة ذلك شعب الجنوب العربي الحر الأبي- الذي ملأ الساحات وأكد على حق الجنوب بأرضه - بل بفعل المنظومة التي تهيمن اليوم على مجلس القيادة الرئاسي. فقد كشفت الوقائع ومعها ما سُمّي بـ(مجلس الدفاع) الذي يقوده رشاد العليمي وزمرته عن تحول متعمد في بوصلة الصراع (من مواجهة المشروع الحوثي إلى إعلان حرب سياسية وأمنية على الجنوب أرضًا وشعبًا) من الدفاع إلى الحرب على الجنوب. إن ما يُطرح بوصفه (مجلس دفاع) لا يؤدي وظيفة الدفاع الوطني بقدر ما يُدار كـمجلس حرب موجه ضد الجنوب هدفه الواضح هو استعادة منظومة نفوذ فقدت سيطرتها وإعادة فتح أبواب النهب المنظم لمقدرات شعب الجنوب وعلى وجه الخصوص حضرموت العز والخير، تلك المحافظة التي ظلت هدفًا لمصالح متشابكة وشبكات تخادم باتت أوراقها اليوم مكشوفة أكثر من أي وقت مضى.
في هذا السياق جاءت الضربة الجوية والتحذيرات الموجهة للمدنيين لتؤكد الانحراف لا لتبرره؛ فاستهداف محيط ميناء المكلا—و هو مرفق مدني سيادي وشريان اقتصادي وإنساني لحضرموت—لا يمكن فصله عن دلالته السياسية، فالقانون الدولي الإنساني لا يجيز استهداف المنشآت المدنية على أساس اشتباه ولا يمنح الغطاء لإجراءات تُبنى على ادعاءات أحادية لم تُسند بأدلة علنية أو تحقيقات مستقلة ولا تُحال إلى آليات أممية مختصة.
إن وصف العملية بالمحدودة لا يُسقط مبدأ التناسب والضرورة العسكرية، ولا يرفع المسؤولية عن تعريض المدنيين للخطر، وتعطيل سلاسل الإمداد والأمن الاقتصادي؛ فحماية المدنيين لا تتحقق بالقصف ولا بإخلاء الموانئ بل بالتحقيق الشفاف وتحييد المرافق المدنية عن أي تجاذب.
إعادة استدعاء قرار مجلس الأمن رقم (2216) لعام 2015 خارج سياقه الزمني والموضوعي وتحويله إلى أداة انتقائية لتبرير الضغط على الجنوب تمثل قراءة منحرفة للشرعية الدولية؛ فالقرار صدر في ظرف مختلف واستهدف أطرافًا محددة، ولا يمكن تحويله إلى صك مفتوح لتجريم الجنوب أو كبح إرادته السياسية، أو إعادة رسم المشهد بالقوة. تسييس القرارات الأممية يُفقدها حيادها ويقوض الثقة بها .
إن المجرم الحقيقي في تعطيل معركة صنعاء وحرف بوصلة (التحرير) ليس الجنوب ولا قواته بل تلك المنظومة التي حوّلت الشرعية من إطار مؤقت لإدارة الصراع إلى أداة تصفية حسابات منظومة سخّرت الغطاء السياسي والعسكري لمحاولة إخضاع الجنوب وكسر إرادته، بعدما عجزت عن فرض نفوذها عليه سياسيًا أو شعبيًا. لقد بات التماهي بين بيانات هذه المنظومة وإجراءات التصعيد—بما فيها الضربات والتحذيرات—مؤشرًا واضحًا على تخادم المصالح وعلى أن الانحراف لم يعد خفيًا بل صار فعلًا معلنًا يدفع ثمنه المدنيون .
حق الجنوب على أرضه… مبدأ وحق أصيل—سياسي وقانوني وتاريخي—في أرضه وموانئه وثرواته. هذا الحق لا يسقط بالبيانات ولا يُلغى بالضربات الجوية ولا يمكن مصادرته بذريعة (الاستقرار)؛ فالتجارب أثبتت أن القوة لا تصنع شرعية وأن أي أمن يُبنى على استهداف المرافق المدنية هو أمن هش ومؤقت .
إن أي انحراف في استخدام القوة وأي مساس مباشر أو غير مباشر بالمنشآت المدنية يحمّل الجهة المنفذة مسؤولية قانونية وسياسية كاملة عن الأضرار والنتائج بما في ذلك تعريض المدنيين للخطر، وتعطيل المصالح العامة، وتقويض فرص السلام. هذه المسؤولية لا تُمحى بتوصيفات لغوية ولا بادعاءات امتثال غير مُثبتة.
ما جرى ليس ((ضربة)) فحسب، بل انحراف خطير في المسار ورسالة سياسية خاطئة التوقيت والمضمون. الجنوب لا يطلب حماية تُقصف موانئه باسمها، ولا استقرارًا يُفرض بتهديد حياة أبنائه .. الطريق الوحيد للأمن الحقيقي يمر عبر احترام الحقوق وتحكيم القانون والاعتراف بأن حق الجنوب على أرضه قضية عادلة لا تُعالج بالقوة ولا تُحسم من الجو.
