لم تكن عدن، المدينة المفتوحة على البحر والريح والضوء، مهيّأة لاستقبال هذا الضيف الرمادي القادم من بعيد. فالسحابة التي ظهرت فوق المدينة خلال الساعات الماضية لم تولد من صحراء قريبة، ولم تحملها رياح محلية عابرة؛ بل جاءت من عمق نشاط بركاني في شمال شرق إثيوبيا، حيث لفظت الأرض غضبها، ثم دفعت الرياح بما خرج منها نحو البحر الأحمر، قبل أن يستقر جزء منه فوق جنوب اليمن.
هذه الظاهرة، الغريبة على المناخ اليمني، ليست مجرد “غبار آخر” يعتاد عليه الناس. فالرماد البركاني — كما توضّح الدراسات الجيولوجية — مادة مختلفة في طبيعتها وسلوكها في الهواء. إنه مزيج من جزيئات دقيقة حادة الحواف، تتكون من شظايا صخرية وزجاجية مجهرية، تتطاير بفعل الانفجار البركاني وتعلو في طبقات الجو قبل أن تعود إلى السقوط حيث تقودها الرياح.
وبحسب ما تورده التقارير العلمية للهيئة الجيولوجية الأميركية (USGS)، يتشكّل الرماد البركاني من جسيمات متناهية الصغر، بعضها أدق من أن يُرى، لكنها قادرة على إحداث تغيرات واضحة في صفاء الهواء ولونه. كما يصاحب هذه الجسيمات عادةً غازات بركانية، أبرزها ثاني أكسيد الكبريت، الذي قد يغيّر من رائحة الهواء ويضيف طبقة ضبابية خفيفة فوق المدن.
وعندما يصل هذا الخليط إلى مدينة مكتظة كعدن، يظهر تأثيره في صورتين واضحتين:
الأولى بصرية، تتجلى في ميل السماء نحو الرمادي، وتراجع مدى الرؤية، وتغيّر ملمس الأسطح المكشوفة.
والثانية مادية، حين يترسّب الرماد على المباني والسيارات والأشجار، مشكّلًا طبقة خفيفة توحي بأن المطر زار المكان، لكنه لم يحمل ماءً، بل حمل غبارًا نُحِت في جوف الأرض.
ورغم أن وجود هذه السحابة مؤقت، إلا أن حضورها يربك إيقاع الحياة في مدينة تفيض بالحركة مثل عدن. فالجزيئات الدقيقة في الهواء تزداد كثافة، ما يجعل الأجواء أكثر ثقلاً على الأنفاس، خصوصًا لدى الفئات الأكثر تأثرًا بالتغيّرات المفاجئة كالربو وأمراض القصبات وكبار السن. كما تبدو ملامح غبار ناعم فوق الأسطح، يختلف عن الغبار المعتاد بملمسه الأدق ووزنه الأخف، كأنه مسحوق صخري سُحق بعنف ثم حملته الرياح في رحلة طويلة.
يشير علم الجيولوجيا إلى أن الرماد البركاني، رغم صغر حجمه، قادر على عبور آلاف الكيلومترات إذا رافقته تيارات هوائية عليا قوية. وهذا ما حدث مع السحابة التي خرجت من إثيوبيا، واتجهت شمالًا، ثم انحرفت نحو جنوب الجزيرة العربية لتستقر لحظات فوق عدن.
هذه الظاهرة ليست الأولى عالميًا، لكنها الأولى التي يلمسها سكان ضواحي العاصمة عدن، وتحديدا المحافظات القريبة، بهذا الوضوح. وهي تذكير بأن الأرض واسعة، وأن خطوط الجغرافيا قد تمتد دون استئذان، وأن بركانًا بعيدًا يمكن أن يترك أثره على مدينة ساحلية عريقة مثل عدن.
قد تتأثر بعض الأنشطة اليومية بهذا المشهد الطارئ، خصوصًا تلك التي تُمارَس في الهواء الطلق، حيث يصبح البصر أقل حدّة مع اختلاط الرماد بالرطوبة أو الضباب الخفيف. لكن السحابة، مهما بدت غامضة أو مقلقة، تظل زائرة عابرة، لا تستقر طويلًا، وتتنقل مع تغيّر الرياح وتبدل الأجواء.
ما تعيشه عدن اليوم ليس حدثًا اعتياديًا، ولا أمرًا يدعو للهلع. إنه فصل علمي نادر من كتاب الطبيعة، تكشف فيه السماء عن وجه آخر للكون:
رماد يعبر البحار، ويهبط فوق مدينة انتظرت المطر، فإذا بها تستقبل غبارًا من نوع مختلف — غبارًا صُنع في جوف الأرض، ثم حملته الرياح في رحلة طويلة انتهت هنا، فوق مدرجات عدن، المدينة التي لا تُفاجئها الحياة بقدر ما تدهشها الطبيعة.
