جاء بن بريك على ما قلناه منذ البداية، (استقرار العملة يحتاج إلى قرارات صعبة). لكن أيضاً هناك حقيقة اقتصادية يجب ألاّ نغفل عنها وهي أن البنوك مهما كانت صيغتها أو وضعها في إطار المنظومة المالية والمصرفية لا تولد النقود ولكنها إما أن تديرها أو تضارب بها. أي أنها ليست جهازا منتجا، وبالتالي لا يمكن أن يستمر استقرار العملة بالإنعاش والتنفس الصناعي إذا لم نستطع أن نوجد مؤسسات منتجة للعملة والصعبة منها على وجه التحديد.
لكن كيف نفعل ذلك؟ نحن لا نستطيع اجبار الاستثمار الأجنبي على العمل في ساحتنا، لأن ذلك ليس خياراً متاحاً أمام أي دولة.
تقول القاعدة إن رأس المال جبان، ولكنه ليس جباناً حسب فهمنا لمفردة (جبان). يستطيع رأس المال العمل في كل البيئات ماعدا البيئة عديمة الأمان بالمعنى الحرفي.
يعمل رأس المال في البيئة القانونية بصورة أفضل بالنسبة للمجتمع والاقتصاد. ولكنه أيضاً قادر على العمل في البيئات الفاسدة ويحقق أكبر قدر من الأرباح، ولكن يتم ذلك على حساب الجودة وعلى حساب خلق فرص واعدة للاقتصاد الوطني، لأنه يهرب موارده أولاً بأول إلى خارج الحدود خوفاً من الجبايات المزاجية و(المتهبشين) وعدم اليقين من الاستقرار السياسي.
حكى لي أحد الأصدقاء أنه كان في إحدى دول الجوار وتفاجأ بوجود منتجات يمنية في أسواق تلك الدولة، والمفاجأة الأكثر أن تلك المنتجات في غاية الجودة وأنها تلبي تماماً كافة المتطلبات القياسية لهيئة المقاييس الخليجية، بينما نفس المنتجات التي تنتج في الداخل يمنع دخولها إلى تلك الدول. لا أظنني محتاج لذكر أسماء الشركات اليمنية المقصودة لأنها بيوت مالية معروفة.
عودة إلى القرارات الصعبة التي تحدث عنها بن بريك. هذه القرارات لا تمس ملفاً واحداً، بل يجب أن تمس كافة الملفات الاقتصادية التي من شأنها أن توفر للمستثمر الوطني والأجنبي كل الحوافز المغرية الممكنة. هناك بنية تحتية مادية ومعنوية. منها ما يتعلق بالتشريعات والممارسات والتعاملات مع المستثمرين، ومنها ما يتعلق بتوفير الظروف الطبيعية للتنمية.
أول الملفات بهذا الجانب يأتي ملف الطاقة باختلاف مصادرها المتوفرة في البلاد، وأولها الطاقة الكهربائية. لقد بدأت أزمة الطاقة تتفاقم بوضوح منذ 2006، عندما انكشف الحال عندما أرادوا إقامة الحفل الوطني في الحديدة. ومن حينها علمنا بتقادم المحطات العاملة وانقطاع برامج الصيانة الشاملة وتفشي الفساد في قطاع الطاقة.
كان صالح بن فريد الصريمة قد اقترح على الرئيس هادي حلاً معقولاً لمشكلة الكهرباء والتخلص من فكرة الطاقة المشتراة، وذلك بإنشاء محطة غازية بطاقة 500 ميجاوات بتكلفة 600 مليون دولار، ووجه الرئيس بتنفيذ الفكرة ولكن وزيري المالية والكهرباء التفا على تلك التوجيهات وكانت النتيجة خسائر بمليارات الدولارات في قطاع الكهرباء. وزير الكهرباء نفسه صرح حينها أن ملياري دولار ذهبت لشراء الطاقة في عهده الميمون بينما كانت مهمته التي صرح بها هي التخلص من هذه المسألة وإلى الأبد، لكن فاقد الشيء لا يعطيه.
في العاصمة المصرية الإدارية الجديدة أنشأت شركة سيمنس محطة توليد غازية بطاقة 4800 ميجاوات بتكلفة 2.5 ميار دولار تقريباً. مثل هذه الكمية الكبيرة من الطاقة لو توفرت لدينا لكان بإمكانها سد كل أو معظم احتياجات البلاد. لكن الثقب الأسود في قطاع الطاقة ظل يتوسع يومياً ويبتلع كل ما يصادفه أمامه.
فتح هذا الملف الآن بالذات والمغامرة المحسوبة باتخاذ القرارات التي يسميها بن بريك صعبة هو ضمان حقيقي لمصداقية كل السلطات في هذا البلد، لأن هذه المصداقية لا يمكن أن تتوفر بدون امتلاك الإرادة والرغبة في الإرادة ذاتها.