بين الواقعية والشرعية… كيف يوازن اليمن خياراته؟
بين الدعوة إلى مصالحة شاملة غير مشروطة، والتحذير من مساواة الضحية بالجلاد، يقف اليمن اليوم أمام مفترق طرق. ففي خضم هذا المشهد المعقد، تتباين القراءات وتتضارب المواقف بين من يرى في المصالحة خشبة الخلاص الوحيدة، ومن يعدّها تنازلاً غير مشروع يفرغ العدالة من مضمونها. هذا التناقض تجلّى في مقالين متزامنين: الأول للكاتب أزال الجاوي بعنوان «المصالحة أو الانهيار التام… الخيار لكم»، نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي، والثاني لي بعنوان «نحو مصالحة لا تُساوي بين الضحية والجلاد»، نشر في صحيفة 14 أكتوبر بتاريخ 21 يوليو 2025. ثم جاء خبر صحيفة الشرق الأوسط (15 أغسطس 2025) بعنوان «مصادر أميركية: واشنطن تدعم العليمي وتتواصل مع المعبقي – تأكيد على مواصلة دعم اليمن وإجراءاته الاقتصادية»، ليعكس موقف واشنطن الداعم للشرعية ويضيف بعدًا حاسمًا لهذا النقاش.
المصالحة أو الانهيار؟
قدّم أزال الجاوي في مقاله طرحاً يقوم على أن الحرب استنفدت أغراضها، وأن الرهان على الخارج لم يعد قائماً، بل تحوّل إلى عبء وضغط على الشرعية. وبرأيه، فإن المصالحة الشاملة مع صنعاء هي الخيار الوحيد المتبقي لإنقاذ البلاد من الانهيار الكامل.
هذا الطرح يستجيب لحالة الإنهاك العام التي أصابت اليمنيين بعد عقد من الصراع، ويعبّر عن توق واسع إلى نهاية الحرب. لكنه يقوم على افتراضين متعجلين: أولهما أن كل الأطراف متساوية في الشرعية والمسؤولية، وثانيهما أن المجتمع الدولي قد طوى يده تماماً عن الملف اليمني. وكلا الافتراضين لا ينسجم مع حقائق الواقع.
مصالحة مشروطة بالعدالة
في مقالي المنشور في “14 أكتوبر”، أكدت أن المصالحة الوطنية لا تعني محو الفارق بين الضحية والجلاد، ولا القفز على المرجعيات الثلاث التي أقرّها اليمنيون والمجتمع الدولي: المبادرة الخليجية، مخرجات الحوار الوطني، والقرار 2216.
فالخلط بين من دافع عن مشروع الدولة ومن انقلب عليها لن يقود إلى استقرار، بل إلى شرعنة الفوضى وإعادة إنتاج العنف. العدالة هنا ليست شعاراً أخلاقياً، بل ضمانة سياسية تمنع تكرار المأساة. وأي تسوية تتجاهل هذا البُعد ستتحول إلى صفقة مؤقتة، تزرع بذور انفجار جديد.
خبر الشرق الأوسط: الدليل القاطع
الخبر الذي نشرته الشرق الأوسط جاء ليضع النقاط على الحروف. فقد أكدت مصادر أميركية استمرار دعم واشنطن لمجلس القيادة والحكومة اليمنية، ودعمها خطوات الإصلاح الاقتصادي واستقرار العملة، بالتوازي مع تشديد العقوبات على الحوثيين وضبط تهريب السلاح.
هذه الرسائل تنسف عملياً مقولة أن الخارج قد انسحب أو أغلق أبوابه، وتؤكد أن الشرعية ما زالت تحظى بغطاء دولي مهم. صحيح أن الولايات المتحدة جمدت عملية «الفارس الخشن» البرية، لكنها لم تتراجع عن اعتبار الحوثيين جماعة مهددة للأمن الإقليمي والدولي، ولا عن دعم الشرعية في مسار استعادة الدولة.
الموقف الأوسع: دعم متواتر للتحالف والشرعية
المسألة لا تتوقف عند الموقف الأميركي. فالدعم للشرعية اليمنية محسوم منذ البداية من قبل التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وهو دعم عسكري وسياسي واقتصادي أنقذ اليمن من الانهيار الكامل. كما أن الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، بصفتها “حاملة القلم” للملف اليمني في مجلس الأمن، يجدّدان باستمرار موقفهما الداعم لمجلس القيادة والمرجعيات الثلاث.
هذا التماسك في المواقف يقطع الشك باليقين: الشرعية ليست وحيدة في الميدان، بل تحظى بإسناد إقليمي ودولي متواصل، ما يضعف أطروحات التسوية التي تتجاهل ميزان القوى والمشروعية.
الدروس والرسائل
• *للشرعية: *هناك فرصة ثمينة يوفّرها الدعم الدولي والإقليمي، شريطة أن تُستثمر في إصلاح مؤسسات الدولة وتعزيز الحوكمة.
• للحوثيين: لا اعتراف بسلطتهم كأمر واقع، بل استمرار للعقوبات والضغط الدولي باعتبارهم تهديداً للأمن والسلم.
• للنخب اليمنية: المصالحة ممكنة، بل وضرورية، لكن بشروط واضحة؛ سلام يقوم على الحق لا على الاستسلام، وعلى العدالة لا على مساواة الجلاد بالضحية.
الخاتمة: أي مصالحة نريد؟
اليمنيون جميعاً يتوقون إلى السلام. لكن الفارق كبير بين سلام يُبنى على العدالة ويعيد للدولة هيبتها، وبين «مصالحة» تُكرّس الانقلاب وتكافئ الجناة. الخبر الأميركي وما يواكبه من مواقف عربية وأوروبية واضحة يؤكد أن العالم ما زال معنا، لا علينا.
إن الطريق الآمن لليمن ليس في تسويات هشة تُفرغ السلام من معناه، بل في مصالحة مسؤولة تحفظ حق الضحية، وتستند إلى مرجعيات الشرعية، وتعيد بناء الدولة على أسس العدالة والإنصاف.