رائحتها تأتيني وتقتحمني، رائحة لاتشبه أي رائحة اخرى، معطرة بعبق الزعفران وعود الصندل والبخور العدني والند والعطر العربي.. مزيج من هذا وذاك..ليست رائحة امرأة عرفتها يوماً وعشقتها..بل رائحة مدينة.
وهل للمدن روائح ؟
ليس من قوة تمنعني من الذهاب إليها، ركوب الحافلة، “باص علي عبده”، أو التاكسي.. الانطلاق صوبها أينما أكون.
لست الوحيد في هذا العشق المجنون، كثيرون غيري ينطلقون من خورمكسر، المعلا، التواهي، الشيخ عثمان، البريقة، وجهتهم جميعاً واحدة نحو تلك الرائحة العبقة..
إلى اليوم لا أعرف سر تلك الرائحة التي تستدعيني كل مساء، فتنتابني تلك الرغبة الجامحة للذهاب للقائها، كأنه قدري المكتوب. كل ما أشعر به انه بمجرد أن أترجل من الحافلة وتطأ قدماي الأرض حتى أشعر براحة غريبة تملأ كل كياني، وباحساس عجيب بأنني شخص آخر في منتهى السعادة.
كم أحب هذه المدينة ثلاثية الحروف، عدن. تلك المدينة التي ما أن تدخلها حتى تحبها، وما أن تغادرها حتى تشتاق إليها..ماذا تفعل بك حتى تحبها بروحك كل هذا الحب ؟ تحس بأنها تشبهك كثيراً وتشبهها إلى حد كبير، إلى حد خرافي.
قصتنا بدأت منذ كنت صغيرا،ً مذ أخذني ابي من يدي ومشى بي عبر طريق العقبة من المعلا إلى كريتر.كان الإنجليز قد فجروا باب عدن التاريخي بالديناميت ويوسعون الطريق ليتسع لسيارتين، فكان من يريد الذهاب إلى كريتر أو المعلا يسير على قدميه..
منذ ذلك الحين أحببت عدن، وعندما أقول عدن فأقصد “كريتر” بالذات دون غيرها من مدن وأحياء المدينة الأخرى التي تشكل في مجموعها عدن الكبرى.. سأذكر طوال حياتي الزيارة الأولى..المرة الأولى لاتنسى ابداً، تظل في الذاكرة والوجدان مهما بلغت من عمر، وعدت من سنين.
كان أبي يذهب إلى كريتر لزيارةأصدقائه الحضارم في “دكاكين الشحارية” كما تسمى البقالات في عدن، وبعضهم من بلدتنا الديس الشرقية، ومنهم أخي فرج الذي زرناه في دكانه في العيدروس والمرة الثانية في حافة حسين.وكانوا يحرصون على ضيافتنا بزجاجات الستيم والكوثر والكوكا كولا في كل مرة نزورهم. وكنت احب تلك المشروبات الغازية ولا أشبع منها، وكانت هناك عدة مصانع في عدن للمشروبات الغازية التي عرفت منذ منتصف الخمسينيات بعض الصناعات الغذائية، وتصدرها إلى دول الجوار بعد أن صارت عدن منطقة تجارة حرة وسوقاً حرة، والمدينة الأشهر في الخليج وشبه الجزيرة.
كل شيء كان مبهراً في عدن للطفل الذي كنته، الضوء الذي يغمر الغرفة بمجرد لمس زر في الجدار، الماء الذي يتدفق من حنفية مثبتة في الجدار، الطرق المعبدة..السيارات، وبضاعة العالم التي تملأ الفاترينات، وذلك التنوع المدهش للجنسيات والأديان واللغات والأزياء والثقافات الذي كانت تجسده عدن اكثر من أي مدينة أخرى، والذي كان يعطيها كل ذلك الزخم والحيوية وربما حتى الرائحة التي كانت تجذبني إليها وتلقيني في أحضانها، لكن حتى بعد أن كبرت في العمر، مازلت ذلك الطفل المغرم بعدن، كما رأيتها أول مرة، تلك الطفولة الخجولة القروية التي لم تستطع أية مدينة أخرى أن تنتزعها مني..ولا مساءات عدن، ولا سحر الأضواء في ساحل صيرة والجسر المعلق، وروحاتنا جيئة وذهابا في قلب كريتر النابض ؛ الميدان والشارع الطويل وشارع الزعفران وتفرعاتها الكثيرة، هوسنا بشرب الشاي في مقهى زكو الممتلئة أو السكران، التعلق بكل زاوية في عدن التي لاتنام حتى تسلم الليل للصباح. لحظتها فقط نغادرها لنعود إليها في اليوم التالي واليوم الذي يليه وكل الليالي، ولسنوات طوال.. نمشي في نفس الشوارع، نشرب نفس الشاي باللبن والهيل. نرتاد السينما، نخترق المدينة طولاً وعرضاً، نكون صداقات جديدة مع أبناء المدينة الطيبين، نزداد تعلقا بعدن كل يوم، نحفظ تاريخها، تفاصيلها الصغيرة، نتعلم لهجتها، اللهجة العدنية الجميلة ونتكلمها مثلما يتكلم العدنيون. نمنح أنفسنا بعض الحق أن ننتمي إليها، ونصرخ أمام الجميع : نحبك ياعدن....