هذا الشتاء القارص القارس، أوالصقيع البارد الحارق الذي أسموه ربيعاً وهو ليس بربيع.. أنتج لنا ـ ضمن ما أنتج ـ كماً وافراً من المفردات المسممة والمصطلحات المفخخة التي تصطدم أسماعنا في اليوم بين عشر إلى عشرين مرة بإيحاءات مختلفة ودلالات استفزازية نقف في هذه المقالة عند إحداها:
(التصعيد) وفي البدء نعرج على جذرها اللغوي ثم استخداماتها الاصطلاحية: “ص ع د.. وأصعدت السفينة” مد شراعها فذهبت بها الريح، وعليك بالصعد أي أجلس على الأرض، وصعيد أرضها هو وجهها، ربتنا على صعيد طيب، تنفس الصعداء: إذا علا نفسه، وللسيادة صعداء، ارتفاع شاق على صاعدة.قال الهذلي:
إن سيادة الأقوام فاعلم
لها صعداء مطلعها طويل”
(أساس البلاغة: الزمخشري: ص 253 ـ 254).
إذاً فالدلالة المعجمية لفعل التصعيد ومصدره.. معانيها إيجابية: دفع شراع الأمل، والتراب النظيف الطيب، والوجه الجميل النضر، ومدارج الطموح المشروع القائمة على نبل الخلق والصبر الشديد لاسيما عند رغبة (سيادة الأقوام) أي حكم الشعوب دون إراقة الدماء، وتدمير العمران، وسياسة الإفقار.. هذا ما يتكشف بجلاء.. من بطون القواميس لكن مشهد الربيع الأمريكي شحن مفردة (تصعيد) بقوة سياسية انفجارية.. تهددنا بالتدمير في كل حين. من شاشات المأجورين الملاعين.
الثوار يصعدون (بفتح العين المشدودة) للضغط على الرئيس أوالحكومة لـ ...، حينما تثمر الجهود عن قرب وصول الفرقاء إلى نقطة مشتركة أو حلول وسط تأتي الإشارة من الخارج فيرفضون ويخرجون مهددين بالتصعيد (أقصد الفريق المتشدد) إن لم تنفذ كل مطالبهم بما فيها المستحيل أو الصعب في ظروف اللحظة الراهنة الواهنة المرتخية، المهم.. أرفع السقف، وتر، صعد، هدد، خرب، أضغط..
أزعم أن هذا ربيع الانتهازية بامتياز، وما كان للانتهازية التصعيدية أن تنتعش في أي زمن أو عصر إلا في عهدنا الحالي العامر بالفكر المغالي، والعقل البالي، واللؤم الاحتيالي، والاستخفاف الاهتبالي، تشوف الشيوخ يصعدون، وقد صعدوا على أكتاف الشباب القوية، وقطفوا ثمرة العنب في منظر مدهش عجب، والروح مني سلب.. يوه قلبي احترق والتهب، كما غنانا سنيدارنا الجميل الذي الهاه جمال أرض الفرعون عن أن يتحفنا بأعذب الأغاني، وأجمل اللحون.
عشق الكثيرون التصعيد حد الثمالة ناسين أنه يمكن أن يوصلهم إلى (الصعود إلى الهاوية).
المعارضة الربيعية التي قبضت على نصف كعكة السلطة أو ثلثيها مع فرقائها، وتفرض تنازلاتهم: الشباب والمليشيات والأنصار جاهزون، الإشارة..جاءت مع تحويلات (البناء والإعمار) يا الله يا شباب.. همتكم، حور الجنة على نار في انتظاركم.
كم ضحايا أرسلتهم نغمة التصعيد إلى الدار الآخرة؟! كما ملايين معاناة وأنين وعيش مثل الميتين؟!
كم مليارات الدولارات نتيجة لعبة التخريب المنظم للمنشآت والعمران ودور الخدمات؟!
هل آن الأوان لترك لغة التصعيد الحادة المستفزة؟! أو التخفيف منها كخطوة حسن نوايا حتى لا يحصل العنف الدموي، والتصادم الاجتماعي، والانهيار الاقتصادي، والتفجير الثقافي، والتعطيل الخدماتي بشكل عام.
نريد أن نسترد حياتنا المعتادة المخطوفة..من براثن التصعيد المتحفز، ولغة المواجهات الساخنة التي تحصد مئات وآلاف الأرواح البريئة.
لقطات:
ـ الدولار في صعود وريالنا في هبوط، وأخلاقنا.. في سقوط.
ـ التصعيد يدخلنا منطقة الضباب، وغابات الانكماش، وأجواء المشاحنة البغيضة
ـ هناك علاقة بين التصعيد والعصيد باعتبار أن هناك عصيدة متعمدة لأي تقارب..كله عصيد فوضى، خلط أوراق، مزايدات، والرغيف يطير.
ـ ونحن نتحدث عن التصعيد لا غضاضة أن نشير إلى الصعيد، وسحل أحد رجاله (حمادة صابر) على يد الشرطة المصرية وهو عارٍ بوحشية غير مسبوقة، وفي امتهان غير مسبوق.
ـ متى سيأتي اليوم الذي نتنفس فيه الصعداء! نستنشق هواءً نقياً، وأريجاً عاطراً مودعين تصعيدات الاعتصامات والمظاهرات الدموية؟!
ـ نتمنى أن نرى الفضائل والأخلاقيات دوماً في صعود، والرذائل والسيئات في انحدار بلا حدود.
إيماءة:
بفعل جنون التصعيد.. اليمن اليوم.. في أضعف حالاته استجابة للضغوط.
آخر الكلام:
لم يغزُ قوماً، ولم ينهض إلى بلد
إلا تقدمه جيش من الرعب
رمى بك الله برجيها فهدمها
تصعيد.. بلا حدود
أخبار متعلقة