حماية المثقفين فكراً وإبداعاً
د. زينب حزام إذا كان ارتباط أي ثقافة بعصرها لا ينفي احتواءها على قيم خالدة على مدى العصور، فإن ارتباطها بمجتمعها لا ينفي احتواءها على قيم عالمية وإنسانية تخاطب الإنسان في أي مكان.. وفي الواقع فإنه بقدر ما تتعمق جذور الثقافة في مجتمعنا تأتي قدرتها على صدق تمثيل الإنسان بصفة عامة وفي كل مكان على أنه في عصر الشعوب الذي نعيشه الآن لا يمكن تصور إمكان قيام نهضة ثقافية قبل محاولة إزالة الحواجز بين طبقات المجتمع .. فالمشكلة الحقيقية التي تعترض إزالة الحواجز الثقافية في المجتمع ليست عجز الشعوب عن تذوق الفن الرفيع بقدر ماهي عجز الفن الرفيع عن تمثيل القيم الشعبية والتعبير عنها، وقديما كتب (بوسوية) يتميز المختار من بين كتل الجماهير كي يقودها، كما تنبت الأشجار راسية من الأرض الأفقية، ويموت الفنان الذي لا تندس جذوره وسط الجماهير كما تموت الشجرة التي لا تغرس جذورها في أعماق التربة. وثمة ما يشبه الإجماع على أن المثقف الحقيقي هو المثقف الحر، وأن المثقف الحق في غير حاجة إلى أن توجه فكره، أو أن تلقنه إحدى العقائد. فهو ينتمي بحسه المرهف وبصيرته النافذة إلى عصره، وكلما غاص في أعماق المجتمع أحس أكثر بالجماعة الإنسانية خارج هذا المجتمع. كما أن تطوير العمل الثقافي لا يعني أبداً فصم الروابط بالماضي، فالإنسان تاريخ متصل، ولقد أثبتت التجارب الإنسانية المعاصرة أن ثمة منهجاً وسطاً يجمع الاهتمام بالجديد والقديم بصورة لا تناقض فيها ولا اضطراب، ولعل أبرز هذه التجارب ما قام به المثقفون في عدن خلال السنوات الماضية من القرن الماضي، من تطوير فنونهم التقليدية مستعينين بالأساليب العلمية الجديدة في إعادة صياغة هذه الفنون دون أن تفقد روح عدن الأصيلة . لقد علمتنا هذه التجارب ألا نضحي بالتراث القومي بحجة التطور ولا نجمده بحجة المحافظة على التراث. يقول الشاعر اليمني صبري الحيقي عن هموم المثقفين اليمنيين في قصيدته (محاولة إيقاف الشارع): الماء يوقد جمرا الأمان يحاصر المدى الشاعر يعلن الموت يا شارع الميناء قف وانزع شراعك عن دمي دعني أمزق معصمي ... يا شارع الميناء قف هيئ شراعك في دمي لا تنحنِ يا شارع الميناء قف يا .. لا يقف ويمر .. يا .. الماء يوقد جمرا الأمان يحاصر المدينة الشاعر، خرقة بيضاء أقل قليلاً من كفن إدريس حنبلة .. سيرة إنسان .. سيرة قضية .. هموم المثقفين في المجتمع اليمنيالشاعر والمناضل الراحل إدريس حنبلة . الذي قدم العديد من الأعمال الأديبة وسجن أثناء الاحتلال البريطاني لعدن، وعاني العديد من الهموم في حياته العامة والأدبية يقول في قصيدته (أنشودة ردفان) بمناسبة اندلاع الثورة الشعبية المسلحة في الجنوب اليمني المحتل في 14 أكتوبر عام 1963م: الذئاب الحمر في أعلى الجبال ينشرون الرعب في كل مكان أنت يا شعبي القوي لاتبال أنت يا ( ردفان) يا رمز النضال قد رضعنا الموت في ساح الوغى وارتوينا منه كالماء الزلال ثم خضناها حروباً لم تزل وقعها كالسهم في قوس النبال همنا نحيا حياة حرة ليس فيها موطئ للاحتلال نحن ثوار أردنا حقنا سوف نفديه بأرواح غوالي سوف نجلي الأجنبي من أرضنا ونرد الكيد في نحر الضلال سوف تعلو راية العرب على قيم شماء من صنع المعالي ونرى الأفق كريما باسما شفقاً يزهو بألوان الجمال ويقول الشاعر والمناضل إدريس حنبلة رحمه الله في قصيدته نشيد الشهداء التي قيلت في 28 /10 /1967م : اشهدي يا قبور أننا أوفياء كل شيء يدور حولنا كالضياء اشهدي يا قبور قد بذلنا الدماء في سبيل الوطن وافتدينا العداء بالردى والزمن والحجى والضمير إن ما يشغل بال المثقف في بلادنا، هموم الوطن وهموم المواطنين من الغلاء في المعيشة وعدم توفير الأمن والأمان ، وهذا أمر مهم وضروري لحماية المجتمع. وحماية المثقف ليس بالحوافز والمنح وإن كان هذا أمراً مهماً وضرورياً لحماية وضمان استقرار معايشه بل إن ما يشغله هو حماية فكرة وإبداعه بالدرجة الأولى، حمايته من العزل والمنع والمصادرة والملاحقة، همه حمايته من المضايقات وعرقلة نشر أفكاره الإبداعية . وأن ينقد ما يراه من أوضاع معوجة ويقترح الحلول لها. فالمثقف هو العين الساهرة والفاحصة، نيابة عن جموع الناس ، للأخطاء والاعوجاجات التي تحدث في المجتمع والدولة لأن المثقفين هم صمام أمان حماية المجتمع من الانحراق والسقوط. هذا الدور الذي يقوم به المثقفون يحتاج إلى تشريعات حكومية وبرلمانية لحمايته وصوته من المنع والاعتداء، وإلا فلن يجدي حديث عن الثقافة والمثقفين في بيئة لا تحمي الفكر ومنتجيه. ومن أخطر ما غاب بعد حركة الربيع العربي 2011م، وماهو جار اليوم في بلادنا والدول العربية، كان مفهوم الثقافة العلمية صحيح أن هناك مفكرين قدموا تصوراتهم الثقافية حول هذا العصر كما فعل المفكرون البارزون ومن ساهموا في تطوير الثقافة في بلادنا مثل عمر الجاوي، حسين باصديق عبدالمجيد القاضي، عبدالرحمن إبراهيم، عبدالله باوزير، لطفي جعفر أمان محمد سعيد جرادة وغيرهم ممن رحلوا وقدموا لنا أعمالاً أدبية خالدة. ملامح التفاؤل ما أردت التأكيد عليه هو أن حضور الثقافة العلمية لا يكون باستهلاك أدواتها أو نشر ترجماتها، بل أراه تغييراً في نسيج الخطط القائمة في التعليم والنشر والإعلام. أرى أن حضور الثقافة العلمية يكون بتكثيف برامجها على الشاشات العربية المتناسلة والمتكاثرة كزبد ماء المحيط وأن تكون من خلال مطبوعات دورية متاحة - كما وكيفاً - بشكل أكبر للمواطن، وأن تتم إعادة النظر في منظومة الكتب المدرسية التي يشكل حشو المعلومات فيها (100 %) وبعيدة كل البعد عن الواقع الذي يعيشه الطالب في بلادنا. ما نريده هو بناء العقل أخلاقياً وعلمياً، وليستوعب الفكر العلمي الذي يقف وراء المنتج العلمي ، قبل أن يستوعب المنتج ذاته ويتعامل معه.