استعادة قراءة التاريخ
نجمي عبدالمجيدالحقب التاريخية وما تتواكب عليها من أزمات وصراعات، وما يعاد من خلالها لتشكيل حدود الجغرافيا عبر الصراع السياسي، لا تقف قراءة كل ذلك عند فترات صناعتها، فهي وإن مرت في راهنها لصراع مراكز القوى، ودونت إحداثها تحت ضغط ذلك التصادم الذي يقف عند حدود معينة من حسم الموقف، تستعاد تلك الذاكرة في الحاضر لتضع رؤيتها التي تخرج من وجهات نظر وقراءات تفرضها العلاقة بين السياسة والتاريخ.ففي الصدامات المصيرية التي تأتي معها مراحل سقوط سلطات وصعود كيانات وليدة تنافس إقليمي ودولي على سيادة مساحة الجغرافيا، تصبح حقوق التاريخ الحلقة الأضعف عند الرهان على قوة المصالح الدولية في إدارة لعبة الاحتواء للحق التاريخي وتحويل ذلك الحضور الى مسافة من الفراغ يعاد وضعه في إطار ما هو مفروض في واقع عملية بناء المراحل المغايرة التي تمحو أبعاد من الذاكرة وتضع بدلاً منها فرضيات تصبح مع عجز الطرف الآخر، هي الحقائب المشكلة لزمن الانتماء والهوية والتاريخ.للباحث المصري الدكتور سيد مصطفى سالم عدة دراسات متصلة بتاريخ اليمن، وهو يعطي لنا في هذا الجانب قراءات في مسارات وأحداث من ذلك التراكم المار في حقب الصراعات المحلية والإقليمية والدولية، مما يجعل كتاباته من المرجعيات الهامة في معرفة عدة جوانب من تاريخ هذه المنطقة من جزيرة العرب.يأتي كتابة هذا (مراحل العلاقات اليمنيةـ السعودية، 1754 ـ 1934م خلفية وحوارات تاريخية) في إطار الدراسات لجوانب وفترات من تاريخ التغيير والتأسيس لمسافات الحدود وصعود لدول أدركت ان الثوابت السياسية السابقة تعاني من عجز أمام تطور الأحداث الدولية، وإنها في سباق مع الزمن والتاريخ، وأخرى ظلت محاصرة ذاتها في المرتفعات وكأن الجغرافيا قطعت اتصالها مع المقدرة في تحرك التاريخ، لأن حدود الجغرافيا تسقط عندما يكون القادم فرضية لا مفر منها، هنا يصبح الحق حالة عجز مثل السلطة التي تقوده، وعندما تعاد عملية الترسيم للحدود، يتحول حق الانتماء للطرف الآخر الذي يسقط عليه بصمات أفعاله، ورمال جزيرة العرب سرعان ما تسحب تركة الماضي لتطبع على سطحها هوية القادم الجديد، وذلك ما كان من العلاقات اليمنية ـ السعودية ومراحل صراعاتها عبر حقب من التاريخ.ونحن هنا نقف أمام بعضا من قراءة التاريخ لتلك الأحداث، ومن القضايا المطرحة لبحث مسألة الحدود، وصراع التمدد عبر المسافات فمع صعود المذهب الوهابي وظهور الدولة السعودية الأولى وموقع المخلاق السليماني وغيرها من المناطق في هذه المواجهات التي جمعت بين المذهب والقبيلة وتأسيس الدويلات ودخول الصراعات الدولية الى المنطقة.عند فترة من تلك الأحداث يقول الدكتور/ سيد مصطفى سالم : (وقد بدأت الحرب بين نجران والدرعية في وقت مبكر عند ظهور الدعوة السلفية في نجد وذلك ليس للاختلاف المذهبي ـ كما يحلو للبعض ولكن لاستنجاد قبيلة العجمان بنجران عندما هزمتها قوات الدرعية وأسرت بعض أفرادها.وقد استجاب زعيم نجران وهو الحسن بن هبة الله المكرمي لعجمان، وخرج بمن من يام العجمان وغيره ، وبلغ الفا ومائتي مقاتل، وفي نفس الوقت أرسل لصاحب الإحساء عريعر بن دجين بعزمه للسير الى قتال الدرعية، وعقد معه اتفاقاً لمحاربتها مع تحديد موعد للقاء عند (سبيع) التي دارت الحرب عندها بين الدرعية وعجمان، والتي تقع بين الخرج والرياض، وقد وصل المكرمي إليها في شهر ربيع الثاني 1178هـ الموافق يوليو 1764م، فحاصرها.عندئد أرسلت الدرعية جيشاً الى سبيع بلغ عدده رابعة آلاف محارب، وأسندت قيادتها الى الأمير عبدالعزيز بن محمد بن سعود، الذي أوصاه الشيخ بن عبدالوهاب بوصية خاصة، فقال: سر له بهذا الجيش فأني لا اتوسم خيراً من وراء قتال هؤلاء القوم، ما تقول في أناس مسكنهم اليمن ويدخلون في قلب نجد في هذا العدد القليل مع انهم عرفوا شوكتنا فلم يبالوا؟ فإياك والحرب معهم، وإنما أمرتك بالخروج إليهم حتى لا يختلف علينا فيقال: ضعف امر هذه الدعوة وهابوا الحرب مع رجل يامي.ويبدو ان المكرمين كان اكثر حنكة بأمور الحرب، قبل ان تستقر أمورهم ويأخذوا استعدادهم، فهجموا عليهم بالبنادق اولاً ، ثم أمرهم المكرمي باستعمال السيوف لأن البنادق لا تنهي المعركة بسرعة مع جيش كثيف، فانتهت المعركة بهزيمة جيش الدرعية وقتل منه خمسمائة جندي واسر حوالي المائتين وفرت فلو له الى الدرعية).مما يعود إليه الباحث من مرجعيات التاريخ، يقدم لنا رؤية حول الالتقاء بين الدعوة السلفية وآل سعود والحرب مع اليمن، وكان التقارب بين المذهب والسلطة يتطلب التوسع السياسي، فهذه الأحداث كانت تقع في إطار مرحلتها التاريخية فهي قد أسست لمشروع لم يسقط بتراجع نفوذ الدولة السعودية الأولى، بل عززت هذه الرؤية في الحقب الأخرى حتى ظلت من ثوابت إدارة الصراع، وهذا يعطي لنا قراءة مهمة في العلاقة بين القبلية والمذهب وقيام الدولة .منذ بداية القرن الماضي ظلت المسافات الجغرافية بين مناطق اليمن والمخلاف السليماني ومناطق ما عرفت بعد ذلك بالسعودية ، ساحات صراع بين أكثر من قوى، الأتراك، الإمامة، الا دراسة، آل سعود، بريطانيا، وهذا ما ادخل هذه المساحات من جزيرة العرب في تقسيمات الصراعات المحلية والإقليمية والدولية، غير ان التعامل مع فرضيات الحقبة الزمنية كان أكثر من أدركها، وعرف كيف يكون التعامل مع أقطاب مركزية ـ الدولية، هو الملك عبدالعزيز آل سعود، بينما ظلت الأطراف الأخرى أما غير مدركة لنوعية العلاقة مع العامل الدولي، أو محصنة في أطرها التقليدية ولم تدرك أن الجغرافيا ليست هي مجرد توابث على الأرض، بل هي تنقاد إلى حيث تذهب بها المصالح وإدارة العمل السياسي وما يفرض بالقوة يصبح من حقوق المطالبة وحجة الحوار.فحالات التخبط وتبدل مراكز الولاءات عند الإطراف الأخرى، وقوف الملك السعودي كطرف مقابل، يدل على ان تلك الجهات لم تعان السياسة العصرية تقوم على نضم الدولة، وحتى المذهب والقبلية والسلطة وهي تتخطى عتبات الماضي لتدخل الراهن عليها لأخذ بما يفرضه العصر من وسائل في قيادة العمل السياسي، وعندما يغيب مثل هذا الوعي تصبح حتمية السقوط منطق التاريخ، وتلك هي الخطوط الفاصلة بين نظرة الملك عبدالعزيز آل سعود وتلك الأطراف.حول عوامل التنافس على عسير يقول الباحث:(من المعروف أن تاريخ أي جزء من العالم يخضع لعديد من العوامل الطبيعية والبشرية ومن بينها دور الفرد في التاريخ، وعلى ضوء هذا يمكن ان نشير إلى عدة نقاط قبل أن نعود إلى عسير في المرحلة التالية. فأبن سعود استولى على في عام 1902م وهو في سن العشرين.أما الإمام يحيى فقد دخل صنعاء في أواخر 1918م وهو يقترب من الخمسين من عمره.وتمكن ابن سعود من السيطرة على جبال عسير في حوالي أربع سنوات من 1919م إلى 1923م، وأستغرق الإمام حوالي ضعف المدة حتى بسط سيطرته على جميع أنحاء ماورثه من الأتراك وحتى تمكن من أن يرسل قواته إلى الحديدة وتهامه في عام 1925م، وذلك نظراً لوعورة المنطقتين، وامتداد جبال السراة في عسير واليمن مع اختلاف المساحة بينهما.وانفتح ابن سعود على العالم فاستعان بالعرب والأجانب في بناء دولته، وتحالف مع بريطانيا خلال فترة الحرب العالمية الأولى فأمدته بالمال والسلاح، بينما مال الإمام إلى العزلة التي اشتهرت بها اليمن في عهده، وخشي الاستعانة بالعرب والأجانب على السواء كما ناصبته بريطانيا العداء حتى عقدت معه معاهدة صنعاء عام 1934م.ونجح ابن سعود في أن يدفع العقيدة والقبيلة معاً، فأسس هجر الأخوان الذين كانوا تواقين إلى الحرب دائماً، كما كانوا رأس الرمح التي حققت له انتصاراته المتتالية، بينما ظل الإمام يخشى القبيلة ويتعامل معها بحذر ويأخذ الرهائن منها، كما لم يستطع أن يفرض عقيدة واحدة لتعدد مذاهب اليمنيين).ظل المخلاف السليماني ساحة تصارع بين أطراف عديدة فهي من حيث الجغرافيا تحسب على القوى المسيطرة عليه، في وضع الفرضيات التاريخية المنتجة لمثل هذا الحال، لان في حسابات السياسة ما يتجاوز حقوق الجغرافيا، فالمكان الذي يقع عبر حقب متتابعة لأفعال السيطرة المختلفة يصبح عند أكثر من طرف من ضمن لعبة خلط الأوراق في الصراعات الدولية والإقليمية، وهو ما كان من نصيب هذا الموقع، كل قوة تسعى إلى مد نفوذها عبر التوسع السياسي تجعل منه الحلقة الأهم في مراهناتها على التحكم حتى جاء عبدالعزيز آل سعود وفي ظل متغيرات تاريخية ليضع نهاية لذلك التنازع.في قضية أخرى من ذلك الصراع يقول الباحث:(حقيقة لقد وضعت هذه المتاعب ـ وخاصة في السنوات الأخيرة 1927 ـ 1930م ابن سعود في موقف حرج للغاية وبخاصة مع وقوع الأزمة الاقتصادية العالمية.فهو لا يريد أن ينقسم مجتمعه، ويقع فريسة للحروب الأهلية، كما انه لا يريد ان يقطع علاقته ببريطانيا صديقته القديمة، وصاحبة النفوذ في كل من العراق وشرق الأردن، كذلك الكويت وباقي سواحل الخليج العربي حتى عدن جنوباً.أما ثورة ابن رفاده المعروفة، فلن يستطرد في الحديث عنها طويلاً إلا بقدر علاقتها بالثورة في عسير .وابن رفاده من عشيرة بلي من قضاعة التي كانت تقطن شمال تهامة عسير، وقد هجر موطنه إلى مصر، هو وأولاده وبعض أقاربه أثناء الهجوم على الحجاز.وقد اتهمت أكثر من جهة بأنها وراء هذه الثورة وإنها أمدتها بالمال والسلاح، وعلى رأسها الأمير عبدالله بن الحسين امير إمارة شرق الأردن حينئذ، الذي اتاح لها فرصة دخولها إلى إمارته على حدود الحجاز للاستعداد، وللقيام بالاتصال ببعض شيوخ القبائل هناك، وقد دخل ابن رفاده وجماعته حدود الحجاز الشمالية في تموز ـ يوليو 1932م.ويبدو أن بريطانيا تعاونت مع ابن سعود في القضاء على هذه الثورة فقد احتجت وزارة الخارجية السعودية لدى الحكومة البريطانية على ما اتصل بعلمها عن تصرفات شرق الأردن، فأمرت الحكومة البريطانية بمنع تسرب الأرزاق والمهمات الحربية الى ابن رفاده عن طريق شرق الأردن، كما أمرت دورياتها بوادي عربة بمراقبة الحدود، ثم نشر المندوب السامي البريطاني في شرق الاردن بلاغاً رسمياً بمنع كل مساعدة سواء من شرق الأردن ـ او عن طريقها ـ للثائرين ضد حكومة ابن سعود.نجد للسياسة البريطانية في الجزيرة العربية أكثر من موضع يد، فهي ليست بدولة سيطرة عسكرية، بل عملت على ترسيم حدود الكيانات الصاعدة حتى تخلق هويات مغايرة لتلك المتساقطة عن مسار المشروع البريطاني الذي اوجد ثوابث على الرمال المتحركة.لقد قدمت مراحل الصراع أكثر من استنتاج ، فكانت عقارب الاتجاه تذهب نحو ابن سعود الذي عرف بأن السياسة المعاصرة حلقات متصلة مابين الوضع المحلي والمراهنات الإقليمية والمشاريع الدولية، وهذا ما اكسبه مسافات من الزمن ومساحات من الفعل ليصبح الرجل الأقوى في جزيرة العرب في تلك الحقبة من التاريخ.ولعل الفاصل الهام والتاريخي بين ابن سعود وإمام اليمن، هو أن الأول أدرك أهمية الدولة في قيام الحكم بكل أجهزتها، بينما ظل الثاني مستنداً على مرجعيات التفرقة بين القبائل والمذاهب والعزلة فوق الجبال وكأنه في عهود لم يعمل المسار العالمي على تغيير أسسها وإسقاط عقائدها، ومن هنا نجد أن مسألة المخلاف السليماني لم تعد من المسلمات في دائرة هذا الصراع فهي ليست من حدود الدويلات والقبائل والتي ظلت لعقود رهن وموضع تنازع بين من يملك حق الأخذ بقوة السلاح، بل أصبحت ضمن سيادة دولة عصرية.هذا الكتاب ليس مجرد دراسات في حقب راحلة من التاريخ، بل عملية استعادة وقراءة للحدث عبر تبدل الفكر والوعي والبحث في عمق المعارف المتصلة بما جرى حينها.وهنا لا يصبح التاريخ عبارة عن قطع من الماضي تنقل من مربع الى آخر، بقدر ماهو أبراج مراقبة يقف كل حدث فيها في موقعه ليحدد صورة السابق في ذاكرة الفترات، ومن هنا تكون قراءة تاريخ العلاقات اليمنية ـ السعودية في تلك الأزمنة، مرتبطة بصراع السيادة على هيمنة الحدود وتوسع نفور الدولة، ولعل الحقبة التي ظهر فيها الملك عبدالعزيز آل سعود هي من قطعت بشكل حاسم وتاريخي ، استمرارية ذلك الصراع لان المعادلات الدولية في إدارة لعبة الأمم قد حددت إلى أين يصل مسار التاريخ ، وذلك ماعجز عن فهمه حكام اليمن.