ياسر الجابريكثيرة هي النعم التي تتحول إلى نقم، والمحن التي تتحول إلى منح. وهذه المحنة كانت الرصيد الذي امتلكته جمالة البيضاني، والذي ابتليت به وهي في السابعة من عمرها، فتحولت محنتها إلى منحة وهبة وهبها الله عز وجل، فكانت وسيلتها الآمنة للوصول إلى سلم النجاح الذي عجز الكثير من الأصحاء عن الوصول إليه.من منا لا يعرفها؟ هي قوة تندر أن نراها في زمن كهذا.. امتلكت أرتالا من الهمم وأطنانا من العزائم. لو وزعت همتها وعزيمتها على شعب مملوء بالإحباط والتعاسة لوسعتهم سعادة، هي لا تملكها لكنها تهبها للغير.جمالة البيضاني، معين من الحب لا ينضب، وشلال من الخير لا يتوقف. تدفقت خيراتها على المعاقين كسيول جارفة، جرفت معها كل سبل اليأس و الإحباط، فحولت ألمهم أملا، وإحباطهم حلماً.جمالة البيضاني ريّ سارٍ في الحياة، وظل وارف في الهجير. امتلكت في خلجات نفسها آمالا طاولت فيها النجوم وأماني حلقت بها فوق الشهب وعزائم صارعت من دونها الأفلاك. فوفت وأوفت وكانت -ولا فخر- صاحبة مملكة الصبر التي أزالت الألم، ومخزن الروح القوية التي هزمت الضعف، فمثلت الغمام الذي تشكل منه المزن والسيل النافع الذي هطل على أرواح المعاقات المجدبة، فأحيت في نفوسهن الأمل، وحملن في قلوبهن مشاعل النور والإرادة.لم تقهرها الإعاقة؛ بل هي من قهرتها، لم تستسلم قط في حياتها لظرف أو إعاقة، فقط استسلمت للموت الذي أخذها وهي في مقتبل العمر ولم تكمل الحلم الذي سعت إليه وناضلت كثيراً لأجله؛ وهو بناء مدينة (التحدي)، الذي يعد حسب التصاميم الهندسية الأول من نوعه على مستوى الشرق الأوسط.لم تمت جمالة الروح؛ بل ماتت جمالة الجسد. الروح باقية في عيون وابتسامة كل معاق ومعاقة، الذين أفرغت جل وقتها وجهدها من أجل خدمتهم ورعايتهم. لم تعش يوماً لنفسها أو لأسرتها؛ بل كرست كل وقتها وجهدها، وصحتها لوطنها ومجتمعها، وقدمت حياتها كلها لخدمة المعاقين.[c1]إعاقة مبكرة[/c]في العام 1974م، ولدت جمالة البيضاني في قرية العيوف محافظة البيضاء. وشاءت الأقدار وهي في السابعة من عمرها أن تصاب بحمى شوكية في الدماغ أدت إلى إصابتها بالشلل النصفي للأطراف السفلية، سلبت قدرتها على الحركة؛ لكنها لم تهزمها على مدى الحياة التي عاشتها.تلك الإعاقة المبكرة، التي منيت بها «جمالة»، لم تمنعها من مواصلة تعليمها، فكانت هذه أولى مرحلة من مراحل التحدي التي حطمتها (ماما جمالة)؛ رغم ولادتها في بيئة ريفية لا تأبه لتعليم الأصحاء، فكيف لبنت ومعاقة أيضاً في آن واحد؟ لكنها تحدت إعاقتها وواصلت تعليمها حتى أكملت المرحلة الأساسية. ومن ثم غادرت إلى العاصمة صنعاء و فيها واصلت تعليمها حتى أكملت دراستها الثانوية، وكذلك الجامعية؟ حينها انتقلت إلى نوع آخر من أنواع التحدي؛ وهي اقتحامها لسوق العمل الوظيفي، وتحديداً في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. لم تكن جمالة مجرد طالبة، فقط تذهب إلى المدرسة من أجل تغيير جو؛ بل كانت طالبة متميزة تحرز المراكز الأولى في جميع مراحل الدراسة، فكانت هي الأولى في محراب الحياة.[c1]قيود العادات تتكسر[/c]كثيرة هي العادات والتقاليد التي ترسم اليأس والإحباط في نفوس المعاقين بشكل عام، والمعاقات بشكل خاص؛ لكن جمالة البيضاني عملت على تكسير هذا الجدار العازل الذي شكلته مجموعة من الأعراف الاجتماعية الخاطئة، والتي جعلت من المعاقة حبيسة جدران البيت الأربعة، لا يسمح لها بتجاوزها خشية الخوف والعار، كما يظنون ويدعون؛ بل وفتحت ثغرة من النور على تلك الأجساد المعاقة فأضاءت لهن الطريق وأنارت لهن الدرب، فأدخلت في نفوسهن الابتسامة ورسمت على شفاههن البسمة، بل حولتهن إلى مشاريع نجاح ونماذج كفاح، وجعلت كل واحدة منهن صاحبة رسالة في هذه الحياة. حيث استطاعت أن تعمل على إيجاد المكان الآمن، الذي يعمل على تنمية مهارات الفتيات المعاقات سمعياً وحركياً، بل وذهنياً، وحملت في نفسها شعار (لا تعطني سمكة ولكن علمني كيف أصطاد).لقد استطاعت رائدة العمل الخيري في اليمن، وذلك من خلال مشروعها العملاق الذي آوى قرابة 3000 آلاف معاقة من المنتسبات إلى جمعية التحدي، أن تعكس موازين نظرة العار والقصور واليأس والانكسار، وجعلت من المنتسبات إليها صاحبات رسالة للمجتمع انحسرت وتبددت معهن تلك النظرات البائسة حول المعاقة، ليحل مكانها الإيمان. فإن الإعاقة هبة من الله وإن المعاق يملك من المهارات ما يفتقدها الكثير.[c1]ميلاد جمالة كان في 1998م ![/c] أنا لا أعرف شيئاً اسمه المستحيل، كما أني دائماً أفكر كيف أصنع من الإنسان صاحب رسالة، خاصة الذي يئس من الحياة، بهذه الكلمات التي تستحق أن تكتب بماء الذهب. استطاعت جمالة البيضاني أن توصل إلى الأصحاء رسالة مفادها أن التفكير بصناعة الإنسان ونهضته هي الأولوية التي ينبغي أن تحتل الكثير من أولويات مشاريعنا. كما أن إخراج اليائسين من الحياة وتحويلهم إلى أداة صالحة للنفع بالمجتمع هو ما عملت عليه جمالة البيضاني، من خلال تأسيسها لجمعية جعلت أسمها «التحدي» التي أسستها في العام 1998م، أن تغير من النظرة الدونية تجاه المعاق. وكان همها أن يتم التعامل مع هذا المعاق أو المعاقة كإنسان له حقوق وعليه واجبات. حاولت أن تعمل على إذابة اليأس الذي يتربع في أحشاء المعاقات، فتحولهن إلى نماذج ملهمة في العزيمة وقوة الإرادة. حينها قالت جمالة إن هذا تاريخ ميلاد جديد لها.رأست الجمعية وهي تعاني من الإعاقة، واستطاعت أن تحقق للمعاقات أحلامهن، وأن تغير النظرة الدونية من المجتمع تجاه المعاق. ومنذ أن ابتلى الله جمالة بالإعاقة، رأت أن الإعاقة ليست مشكلة أمام الإنسان الذي يمتلك العزيمة والإرادة لمجابهة التحديات وتحويل الإعاقة إلى عمل يكشف عن الموهبة الحقيقية كل وقت، فعملت بكل ما بوسعها على أن تزرع مفاهيم الإرادة والعزيمة لدى طالباتها اللاتي وجدن في جمعية «التحدي»، الجسر الذي عبرن من خلاله إلى تحقيق ما بوسعهن من إصرار وعزيمة على تحدي كل الصعاب و تجاوز كل المعوقات.[c1]الابتسامة للحياة[/c] أكثر من 3000 معاقة لم يعرف اليأس طريقه إلى قلوبهن. تلك الأجساد الصغيرة التي لا تقوى على الوقوف، باتت اليوم كفيلة بتعليم الأصحاء معنى الإرادة التي لا تقهر. تراهن، وهن يمارسن أعمالهن داخل جمعية التحدي كخلية نحل لا تتوقف، يتوزعن داخل مرافق المؤسسة وهن يقمن بأعمالهن على أكمل وجه يرسمن بريشة الأمل مستقبل حياتهن الجديد ويقهرن بعزيمتهن النظرات الدونية من قبل بعض أفراد المجتمع، حتى استطاعت هؤلاء المعاقات من المنتسبات إلى جمعية التحدي أن يعكسن موازين نظرة القصور واليأس والانكسار تجاه المعاقات؛ كون ما يقمن به من إنجاز لأعمال يصعب على كثير من الأصحاء إنجازها، والابتسامة لا تفارق محياهن. [c1]أم من لا أم له[/c]في إحدى القرى البعيدة عن العاصمة صنعاء، ووسط أسرة فقيرة الحال والمال، ولدت «فريدة» وهي معاقة بضمور في العضلات كان يتطور كل يوم على مدار حياتها. شاءت الأقدار أن تعيش يتيمة الأب، الذي توفي وهي لم تبلغ الخامسة من العمر، فما كان من والدتها التي تخلت عن كل معاني الأمومة والقيم الإنسانية، والمعاقة بضمور الحنان والعاطفة تجاه طفلة لم يكن لها من ذنب في حياتها سوى أن الله قدر لها هذه الإعاقة، إلى أن تركتها تعاني مرارة ألم الحرمان والإعاقة في بيت عمها، والذين لم يكونوا بأحسن حال منها، فتخلوا كذلك عنها. ومرت الأيام ولم يعودوا يطيقونها بين أفراد العائلة، بل أهملوها وتركوها في مكان منعزل حتى لا تؤذيهم كما يظنون.أصبحت «فريدة» تعاني ويل الفراق وجحيم الإعاقة التي حولتها إلى كتلة ألم صادقة؛ إذ كان قرار التخلي الذي اتخذته الأم عنها، بعد فراق زوجها، لا يقل سوءا ومعاناة في نفس البنت التي تمنت لو أنها لم توجد على هذه الأرض، وفي بيئة أشبه ما تكون بغابة بشرية؛ بيد أن هناك شعاعا من الأمل وخيوطا من النور ظهرت في وقت كانت الدنيا فيه قد أظلمت بوجه فريدة، ولم تعد تملك سوى الدموع التي تسيل على خديها صباحاً ومساءً، لتطفئ ما بقلبها من مآسٍ وحزن.كان هذا النور، الذي أضاء لفريدة الطريق، هو اليوم الذي اتخذه عم «فريدة» لأخذها إلى جمعية التحدي للمعاقين لرعايتها والاهتمام بها.لم تكن فريدة، وهي ذاهبة برفقة عمها إلى جمعية التحدي، تحلم أن تصل إلى مكان تجد فيه ذاتها وتحقق فيه أمنيتها، أو أن تعيش بأحسن حال من بيت عمها، الذي عانت فيه كل أصناف الويل والحرمان. وحين وصلت إلى الجمعية استقبلتها «ماما جمالة»، والتي تعد أما لمن لا أم له. ألحقتها بالسكن الداخلي، على أمل أن يعود عمها ويسأل عنها؛ ولكنه تخلى عنها كذلك ولم يعد يأتي إليها أو يسأل عنها، بل تركها كما تركها أهلها جميعاً، ولم تعد تعرف لهم عنوانا.وعندما شعرت «ماما جمالة» بتخلي أهل «فريدة» عنها، ذهبت إليها، أخذتها وضمتها إلى صدرها وخاطبتها قائلة: «أنت من الآن ابنتي. لا تخافي من شيء، واطلبي أي شيء مني». حينها شعرت «فريدة» بلحظات صادقة لم تعشها من قبل. كيف لا، وقد وجدت أمها التي لم تلدها، بل عوضتها عن كل أهلها الذين تخلوا جميعاً عنها. فقد كانت تزورها باستمرار، تنفذ كل ما تحتاجه وتطلبه. تسأل وتطمئن عليها صباح مساء؛ حتى أصبحت «ماما جمالة» تعرف «فريدة» من خلال نظرها إلى وجهها، أهي حزينة أم سعيدة. تعرف مشاكلها وتسعد بوجودها إلى جوارها؛ حتى أصبحت لها عيداً. فكيف سيكون لها عيد بدون «ماما جمالة»؟ هكذا تقول فريدة بعد وفاة أمها جمالة، رحمها الله تعالى.
جمالة البيضاني .. سيرة (نضال) ومسيرة (تحدً)
أخبار متعلقة