ألقى الدكتور إبراهيم الحيدري، العالم الاجتماعي العراقي وخليفة الوردي، محاضرة مثيرة وجريئة في مؤسسة الحوار الإنساني بلندن تقديما لصدور الجزء الأول من عمله الموسوعي «الشخصية العراقية».كان من طروحاته ابتلاء العراقيين بالسوداوية والتشاؤمية. الحقيقة أن هذه النظرة كثيرا ما ابتلي بها كبار المفكرين والفنانين في التاريخ وأدت ببعضهم للجنون والانتحار (فان غوخ مثلا). وهي من منتجات الإحساس المفرط والتفكير المتواصل بمشكلات الإنسان.وهو ما أشار إليه الجاحظ في تقييمه للشخصية العراقية. من روافد هذه النظرة الانهماك بالذات وتجاهل العالم الخارجي. وهو ما يفعله الزملاء العراقيون الآن. يتابعون أخبار بلدهم بنهم ويتجاهلون ما جرى ويجري في العالم ككل.فلو فعلوا لأدركوا أن ما جرى في العراق مؤخرا لا يزيد على ما جرى في بلدان الربيع العربي ولبنان والعالم الثالث، بل وحتى ما جرى في أوروبا، علما بأن معظم عمليات الإرهاب التي شهدها العراق قام بها وافدون أجانب وساهمت فيها أطراف أجنبية، خاصة إيران.ما قام به قاسم في ثورة 1958 لا يقارن مطلقا بما قام به روبسبير في فرنسا أو ستالين في روسيا أو هتلر في ألمانيا. والعراقيون لم ينتخبوا صدام حسين ولا أحبوه، في حين أن الألمان، هذا الشعب الممعن في المدنية والثقافة، انتخبوا هتلر وقدسوه. وما عاناه العراقيون حتى من صدام حسين لا يقارن بما عاناه الألمان وكل أوروبا من هتلر وستالين.قام صدام حسين بمذبحة الأنفال وحلبجة في كردستان. ولكن إخواننا الكرد لم ينتقموا من العرب، ولا حتى من جاء بهم من العرب وأسكنهم في ديارهم. كان بإمكانهم أن يذبحوهم. بدلا من ذلك، أصبحت كردستان الآن ملاذا لكل العرب، أعدائهم بالأمس. تستضيفهم اليوم بكل كرم وعطف. هل بعد هذا من مفخرة ينبغي أن يتباهى بها أي شعب في العالم؟ مفخرة تدل على نضوجه وعقلانيته وتسامحه. حتى في أتعس أيام الحروب الأهلية في كردستان، لم يفكر الكرد ولا العرب في استعمال الإرهاب. كان المقاتلون يتحاربون في الجبل، والعرب والكرد يجلسون كإخوان في المقاهي يلعبون الدومينو والطاولة بكل يسر ومحبة. لا تفجيرات ولا «قتولات» ولا كراهيات.العراق كالولايات المتحدة خليط من القوميات والأديان. ولكن الخليط في العراق تمتد جذوره لقرون من الزمن على عكس الخليط الأميركي الحديث نسبيا. يجعل ذلك من الصعب التمييز ضد فئة معينة، أو فرض مذهب معين على الجميع. فمن أنا؟ أنا بغدادي كرخي.ولكن أسرتي جاءت من سوريا، وإلى سوريا جاءت من المغرب العربي. وهلم جرا. والنصارى سكنوا العراق قبل المسلمين والعرب وسكنه اليهود قبل النصارى. وظلت بغداد، مثل لندن الآن، عاصمة الدنيا تجتذب كل من هب ودب خلال القرون الوسطى. مغولا وهنودا وفرسا وتركا وأرمنا.. إلخ.وأخيرا أرجو أن أعتذر إذا قلت إن هذا الخليط، الشعب العراقي، يتميز في جوهره عن معظم شعوب العالم الثالث بتمدنه وتسامحه وعقلانيته وعلمانيته.
العراق والعراقيون
أخبار متعلقة