(الأمن المائي يعد أساساً ومحدداً وضامناً لمدى استقرار الإنسان في هذا البلد أو ذاك كون الإنسان هو العنصر الرئيسي في معادلة الحياة التي تشمل متغيرات لا يمكن استبدالها أوإكثار المتاح منها كالمياه ، ومتغيرات أخرى كالغذاء يمكن استبدالها واستيرادها وتوفيرها بطرق ومناحي شتى).تدار المياه في مختلف بلدان العالم بعدة أنماط اشهرها هما إدارة الطلب على المياه وإدارة العرض. ففي حين تركز الأولى على تبني إجراءات وأدوات تقنين الطلب المتزايد على المياه ورفع كفاءة استعمالها، نجد أن الأخرى تعمل على زيادة المتاح والمعروض من المياه لمواءمة الطلب المتزايد على المياه. فإذا كان الأمر كذلك فمن المنطقي أن الدول الفقيرة بمصادرها المائية تتبنى النمط الأول لإدارة المياه بينما تتبنى الدول الغنية مائياً النمط الثاني مع عدم إغفال كلا الجانبين للنمط الآخر لإدارة المياه في حالة تبنيه لأحد الأنماط المذكورة، ومن هنا نشأت فكرة التكامل في إدارة المياه وتبلورت على أنها تبن لمختلف الأدوات والإجراءات وتنسيق مختلف الجهود والتدخلات لإدارة موارد المياه واستخداماتها بتكاملية وكفاءة وفعالية عالية وكذلك الموارد الأخرى ذات الصلة، الأمر الذي ينجم عنه تعظيم مستوى الرفاه الإقتصادي والإجتماعي للسكان شريطة عدم الإضرار بالنظم البيئية وبحقوق الأجيال القادمة في الحصول على كميات مياه آمنة وكافية. الأمر الذي يدعو للحيرة أن معظم إن لم يكن جميع الدول العربية وفي مقدمتها اليمن ودول الخليج وعدد من دول شمال افريقيا عملت على تبني نمط إدارة العرض خلال الفترة التي امتدت من السبعينات الى التسعينات على الرغم من أنها مصنفة ضمن الدول الأشد فقراً بالمياه على مستوى العالم مهملة في الوقت ذاته الجانب الآخر الأكثر ملاءمة وأولوية لتبنيه في المنطقة العربية وهو إدارة الطلب على المياه. هذه المحاولة التي امتدت لقرابة ثلاثة عقود أنفق عليها كم هائل من الأموال الضخمة والمقدرات الأخرى لإنشاء أنهر صناعية وسدود مائية، وأمطار صناعية، واستنزاف رهيب لموارد المياه الجوفية العميقة التي في جلها ما تكون محدودة وغير متجددة.. إلخ والتي غالباً ما وجهت لتحقيق حلم تحقيق الأمن الغذائي ليس للمنطقة كنطاق واحد وإنما لكل دولة على حدة، لتكتشف تلك الدول والحكومات بعد ثلاثين عاماً أن ما ظنوه حلماً سعوا لتحقيقه لم يتعد مجرد وهم خاطئ الفهم استنفد الكم الهائل من مقدرات الأمة المائية والمالية والبشرية في حصيلة مأساوية أبرز معالمها استنزاف وتلويث ونضوب العديد من الاحواض المائية، ارتفاع كلف استخراج وضخ المياه وكلف الغذاء، إيجاد سدود مائية نجمت في الغالب عن مشاكل اجتماعية وبيئية ونزاعات مائية جمة، ...إلخ والأهم من ذلك كله هو فقدان إطار زمني مقداره ثلاثة عقود كان من الممكن فيه بناء نظم إدارة متكاملة للمياه بقدرات وبنى مؤسسية عالية وتحقيق استدامة وتنمية شاملة في كل بلد من البلدان العربية.هذا لا يعني أن التوجه الخاطئ كان مقصودا ولكن الفهم الخاطئ للمفاهيم وعدم الاهتمام بمبادئ وأسس وقدرات التخطيط المتكامل عند البدء أدى بالجميع إلى الأوضاع المائية الراهنة.فعلى سبيل المثال، كان هَمُّ تحقيق الأمن الغذائي لدول المنطقة من أبرز الدوافع والمبررات لمثل ذلك التوجه الخاطئ حيث تم تفسير الأمن الغذائي آنذاك في سياق واتجاه فردي (منحرف) مفاده أن كل بلد يجب أن يزرع كل ما يحتاجه وينتج كل ما يحتاجه ويصنع كل ما يحتاجه وكأن كل دولة عالم قائم بذاته مما حول الهَّم إلى وَهم. فلا الأديان ولا مبادئ الإنسانية دعت إلى مثل هذا التفرد فالعيش فعلى سبيل المثال يقول الله جل وعلا (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم) فالتعارف في الآية يقتضي التعايش والتبادل والتنافع والتكامل بين الناس من مختلف الأجناس. مثال آخر، لو طبقنا هذا النهج على مستوى الأسرة والفرد فهل سيستطيع كل فرد منا أن يزرع غذاءه ويعالج أسرته ويصلح سيارته ويبني بيته و..و.. الخ فقط ليكون لديه اكتفاء ذاتي وعدم التجاء أو إحتياج للآخر؟؟!! أي عاقل لن يتردد عن الجزم بأن هذا جنون ووهم وضرب من المستحيل. وكذلك الحال بين الدول والشعوب، يجب أن يكمل بعضها بعضاً بحيث يوفر بعضها الغذاء والآخر الكساء وغيرها الدواء و..الخ.إذا سلمنا بذلك فيجب علينا إعادة النظر في مفهوم الأمن الغذائي وأن نتناوله في إطار متكامل مع منظومة الأمن المائي أولاً. بمعنى آخر أن الأمن الغذائي يتوفر حين تتوفر لك القدرة على توفير الغذاء سواء بزراعته أو القدرة الشرائية على توفيره. فمثلاً اليابان وألمانيا لا تزرعان القمح الكافي لشعبيهما ومع ذلك يتمتعان بمستوى أمن غذائي عال عبر قيامهما بتصنيع مختلف الأجهزة والآلات ووسائل النقل المختلفة...الخ وتصديرها لشعوب العالم وتوفير قدرة شرائية عالية لتوفير الغذاء المطلوب من دول أخرى. بالمقابل نجد أن دولة مثل المملكة العربية السعودية أهدرت معظم مواردها المائية الجوفية لإنتاج القمح خلال العقود الماضية فلا هي حققت مستوى أمن غذائي ولا هي حافظت على أمنها المائي وكان الحري بها أن تسخر موارد النفط لتوفير الغذاء بطرق اقتصادية متكاملة وكفؤة سواء كانت محلية أو خارجية. نحن في اليمن أيضا على الرغم من شحة مواردنا المائية نعمل منذ عقود على إنتاج محاصيل ذات استهلاك عال للمياه وتصديرها للخارج والأسوأ من ذلك أن طريقة إنتاجنا لتلك المحاصيل تقليدية تهدر الماء والمال وتقلل من العائد المالي للصادرات. لذلك يجب علينا التعامل بمهنية واحترافية عالية مع مسألة الأمن الغذائي في إطار منظومة التكامل في إدارة موارد المياه والموارد الأخرى ذات الصلة المذكورة آنفاً عبر تسخير مواردنا المائية لإنتاج أكبر عائد اقتصادي أيا كان نوعه بأقل كمية مياه ممكنة وبكفاءة عالية توفر لنا القدرة على توفير الغذاء من مصادر مستدامة محلياً او خارجياً وتضمن لنا في الوقت ذاته الحفاظ على أمننا المائي الذي يعد الأساس والمحدد والضامن لمدى استقرار السكان الذي يعد العنصر الرئيسي في معادلة الحياة التي تشمل متغيرات لا يمكن استبدالها أإكثار المتاح منها كالمياه ، ومتغيرات أخرى كالغذاء يمكن استبدالها واستيرادها وتوفيرها بطرق ومناح شتى.> خبير الإدارة المتكاملة للمياه
المياه وأمن الغذاء..هم أم وهَم اكتفاء..؟؟
أخبار متعلقة