قصة قصيرة
لم يدرِ لماذا انصرفت عنه ؟ أين تلك القبل الخفيفة التي كانت ترمي بها نحوه في الهواء كل صباح ؟ لماذا صارت تبخل عليه ، ولو بنظرة من تلك النظرات التي اقتحمت بها أسوار قلبه بعد موت زوجها ؟ لماذا تصلب قلبها نحوه ، وأصبحت لا تكلف نفسها حتى مجرد السؤال عنه؛ خصوصاً عندما كان يعمد هو إلى الاختفاء ؛ ليلفت نظرها إلى غيابه ، وليشعر بمدى متانة ذلك الحب الذي أحس به من جهتها ابتداءً ؟ .لم يستطع أن يأكل شيئاً منذ أول من أمس .. حاول أن يتجمل قدر المستطاع ؛ مع أنه كان ـ كما يقول ـ قد عزم للمرة العشرين ألا ينظر إليها .. ألا يطل حتى من نافذة الدار .. كثيراً ما قال إنه قد أيقن أنها لا تستحق حتى التفاتة منه .. ومع ذلك .. لم يستطع .. هاهو يقتل نفسه مشطاً ، وملوساً ، ومساحيق تجميل ، واختياراً لأجمل ثيابه .. انتظاراً لإطلالتها الصباحية المعتادة من نافذة دارهم الواسعة .. لعلها تحس بما فيه الآن .. لعلها تحن .. لعلها تقول له كعادتها يوم أحس بها في حياته : صباح الخير يا جميل !! لعلها حتى فقط تلتفت إليه ؛ ولو بالخطأ ؛ وهي تمشط شعرها المستفز لمشاعره ، وغرائزه .. لعلها تعتبره مرآتها إذا شاءت .. مجرد مرآة فحسب !!التف رأسه سريعاً .. ارتفعت نبضات قلبه .. كاد يسقط من حرارة مشاعره .. نظر في مرآته .. تفحص وجهه بحرص .. أطل من النافذة .. نظر في الآفاق بعمق .. ثمة نار تشتعل الآن في قلبه .. قال في نفسه :ـ ما الذي جرى يا جميل ؟ هجرتك سمر ، وقبلها سعاد ، وقبلها سمية .. وقبلها ، وقبلها .. لماذا ؟ هل يضيع شبابي هكذا ، وأموت فكداً ؟! ألا يكفي أن الناس في القرية ينتقصونني أصلاً ؛ لأني كما يقولون أهبل ، وأصبحوا يضحكون علي بعد أن عرف بعض الخبثاء قصتي مع هذه الظالمة ؟ إذا كانت لا تريدني .. لماذا تأكل قلبي ، وتحرقه كل صباح بجمالها ، وحركاتها ، وشعرها الشيطاني ، وتعرض عني ؛ كأنني لست أمامها ؟! كانت السماء قد اكتست بأكوام من الغيوم الكئيبة ، الممزقة ، وثمة حمامة وقعت للتو في مخالب صقرٍ جائع ؛ لكنها ما تزال تحاول الإفلات .وفجأة ، ودون أن يشعر ؛ صرخ من أعماقه :ـ اهر... بـ ... ـي !!حاول أن يتوارى ، لم ينتبه أحد لصوته .. عاد مرة أخرى .. قال في نفسه ، وكأنه يصحو لأول مرة من شروده ؛ الذي يعاني منه منذ صغره :ـ هاه .. ؟ تهـ .. رب .. وماذا لو هربت حمامتي سـ .. مر .. ؟ لاشك سأموت .. نعم سأمـ .. وت ..امتقع لونه .. جرى بعنف إلى الداخل .. استل سلاح أبيه بحركة غير معهودة .. فتحه .. نظر في الرصاصات النائمة في تجويفه .. ضحك ضحكة خافتة .. ثم أعاد كل شيء إلى محله ، وعاد إلى النافذة .وبعد قليل ؛ أطلت .. حاول أن يهمس لها باسمها الحبيب إلى قلبه .. صرفت نظرها عنه إلى اتجاه آخر ؛ بعد أن رشقته بنظرة خاطفة ، ووجه مكفهر ..حاول أن يلفت نظرها إليه بأكثر من وسيلة .. لكن لا جدوى .. قال لها بصوت ضعيف :ـ مالك يا سمـ .. مورة !!ـ تأدب يا ابن الناس ؛ وإلا ..ارتعد .. خشي الفضيحة .. هو يعلم أن أهلها لن يقبلوه زوجاً لها ، وأنه سيسبب الحرج لوالده ، وأن والده لو علم يقيناً ؛ سينزل على خده وابلاً من الصفعات ؛ مثل المرات السابقة .عاد إلى الداخل .. قلب كفيه ، ودون أن يشعر ؛ وجد نفسه يتمتم بصوت شبه مسموع :ـ يا رب ما العـ ..عمل ؟ ضاق حالي يا رب !! سدت الطرق أمامي يا .. إلهي !!وفجأة سمعها تناديه باسمه ، ولكن بصوت أنثوي آسر .. خرج كأنه ولد لأول مرة .. وجه بصره نحوها .. تبسمت .. قالت له :ـ أين ستذهب اليوم ؟ـ إلى الـ .. حقل ..ـ أنا سأكون هناك بعد نصف ساعة ..التهم ما وجد من الطعام ، والشراب ؛ كأنه لم يأكل منذ عام .. أخذ حاجاته مسرعاً .. وأخذ البندقية خفية .. أراد أن يظهر أمامها كأتم ما يكون الرجال في القرية .ـ ولمَ لا .. ؟ أنا ر .. رجل مثلما هم ر .. رجال .قال مقنعاً نفسه ؛ وهو يقترب من الحقل ، وقبل أن يصل ؛ رآها .. ارتجف قلبه كعصفور في قفصه الصدري .. حيا كما هو العرف :ـ السـ .. سلام عليـ .. كم لم يرد أحد على سلامه .. علم أنه لا يوجد سواهما .. هو ، وهي فحسب .. سحب أقدامه الثقيلة الآن نحوها .. قال لها بارتباك جم :ـ صـ .. صـ .. باح الـ .. خير !!لم ترد على تحيته .. لم تلتفت نحوه ,, قالت له ، وبصرها عند قدميها :ـ احمل هذه العصب الحطب إلى بيتنا سريعا !!لم يتكلم .. أخفى أشياءه بين الحشائش .. أسرع نحو الحطب .. لمه في حملة ضخمة .. توجه به إلى بيتها بصمت .. ثم عاد إليها كطفل يتلاعب بالأغصان .. قالت له ؛ وهي مقطبة وجهها :ـ لماذا عدت إلى هنا يا أهبل !!ـ جد ، وإلا .. تهـ .. زلين ؟ـ احترم نفسك ؛ وإلا سألم عليك الخلائق ؟ـ لا .. أر .. جوك !!انقلب وجهه قطعة كئيبة من السواد .. توجه نحو حقل أبيه .. وفجأة .. اقشعر جلده كمن ذكر شيئاً مرعباً .. مشى خطوات مسرعة .. توقف كأنه تذكر شيئاً آخر .. هطل الدمع محرقاً من عينيه .. التفت نحوها .. كانت كأنها تهم بالعودة مبكراً إلى دارها .. احمر وجهه ، ثم ازداد حمرة ؛ حتى غدا ليلة مظلمة .. أسرع نحو خبيئته .. استل السلاح الآلي بخفة ، ثم صوبه نحو رأسها بدقة ، ولم يفق إلا عندما سكنت الروح ، وسقطت على الأرض ؛ هامدة دون حراك .[email protected]