صنعاء / سبأ:تجربة الحوار الوطني اليمنية التي وصلت الى النهاية المرجوة منها أمس الأول بنجاح منقطع النظير فاق كل التصورات .. تستدعي التوقف امامها مطولا بتأمل وتحليلها بموضوعية كونها تجربة نوعية فريدة ليس في المنطقة العربية فحسب بل وعلى المستويين الاقليمي والدولي لما قدمته من حل اتسم بالعصرنة والعقلانية والحكمة لمعضلة التداول السلمي للسلطة والاشكاليات المعيقة للعملية الديمقراطية والسياسية والتي باتت في عالم اليوم تؤرق الكثير من الانظمة و الشعوب . ما شهده اليمن في هذا الجانب أذهل الكثير من المحللين السياسيين على المستويات العربية والاقليمية والدولية كون اليمن خارج توقعات كل المتابعين والمراقبين في أن ينهي أزمته بهذا المخرج المشرف والمتسم بالحداثة ومواكبة روح العصر كونها دولة الامية موغلة فيها و مازالت الحداثة والتمدن تخطوا فيها اولى خطواتها ..فضلا عن كون اليمن بلداً يمتلك أبناؤه ما يقارب عشرات الملايين من قطع السلاح وانهكتها النزاعات واكلت ابناءها ومقدراتها الصراعات القبيلة والحزبية والسياسية .. بجانب شحة مواردها الطبيعة وتعدد التحديات الأمنية المحدقة بها.ثم وفي غفلة من الزمن يضع اليمنيون كل تلك المسميات خلف ظهورهم ويستحضرون اللحظة ومدلولاتها والتاريخ لوطن كان له في يوم من الايام اسهامات بهذا القدر او ذاك في مسيرة الحضارة الانسانية فيضعون السلاح جانبا ويخمدون فوهات المدافع ويجلسون على طاولة واحدة للحوار ليجسدوا بذلك الحكمة اليمانية التي صارت صفة ملازمة للتاريخ اليمني بحقبه المتعاقبة .وأنتظم فرقاء السياسة من مختلف ألوان الطيف وفئات المجتمع وشرائحه في مجموعات وفرق عمل ضمن مؤتمر الحوار الوطني الشامل لدراسة وتشخيص أعقد قضايا الوطن بروية وشعور عالٍ بالمسؤولية يبحثون عن جذور تلك المشكلات واسبابها ومسبباتها وصولا الى بلورة الحلول الناجعة لها متجاوزين الانتماءات القبيلة والحزبية والفئوية والمناطقية والمصالح الانانية الضيقة الى المصلحة الاعلى والأسمى لوطن يعيش الجميع فيه وتحت سمائه منطلقين من الواقع اليمني وخصوصياته اخذين بعين الاعتبار ما يجري من حولهم اقليميا ودوليا من متغيرات جوهرية حدثت على المستويين العربي والدولي اثرت بشكل مباشر على كل الانظمة في مختلف دول المنطقة والعالم.فعلى المستوي العربي .. كانت الدول العربية التي عرج عليها الربيع العربي في غير موعده باستثناء اليمن هي من يشار اليها بالأصابع والبنان وتغلب التوقعات بأنها سوف تسلك طريق الحوار لا لغة الفوهات وجنازير الدبابات لحل اشكالية العمل السياسي والديمقراطي فيها لأنها وببساطة قطعت اشواطا لايستهان بها في مسيرتها العملية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها تخطت اليمن بسنوات طويلة في تلك المجالات.. بينما كان الجميع عرباً واجانب يتوقعون في اليمن حربا اهلية وقبلية لا تبقي اخضر أو يابساً لوجود مقومات واسس تلك الحرب في الواقع اليمني .. لكن جرت الرياح بما لا تشتهيه السفن فقد انتظمت كوكبه لامعة من قادة اليمن وساسته على طاولة حوار تحت سقف واحد وتوزعوا على عدة فرق عمل أوكلت لكل منها معالجة قضية معينة والبحث عن اسبابها وجذورها وصولا الى التصورات العملية لحلها .وعلى المستوى الدولي تركزت هذه التغيرات في أمرين رئيسين الأول : تقني تكنولوجي ..تمثل في الثورة المعلوماتية الجبارة في وسائط الاتصال وتكنولوجيا المعلومات التي حولت العالم الى ما يشبه القرية الكونية الصغيرة، والامر الثاني :سياسي تركز في سيادة النظام الديمقراطي كألية مثلى للعمل السياسي وأصبح نهجا سياسيا في مختلف دول العالم وما نتج عن ذلك من اعلاء للعقل وإعتمالاته واحترام حقوق الانسان وحرية الصحافة وهذان الامران أثرا بشكل مباشر في نمط واسلوب الحياة على المستوى العالمي وعم تاثيرهما الايجابي مختلف دول العالم واصبح بموجب ذلك منطق العقل وسيادة القانون والعمل الديمقراطي وحرية الصحافة واحترام حقوق الانسان هي الامور السائدة في كل مجتمعات العالم ومن لم يواكب هذه التغيرات من الامم والشعوب ويتعامل معها سيجد نفسه يغرد خارج السرب وسيحكم على ذلك المجتمع أو تلك الدولة التي لم تتفاعل مع من حولها من متغيرات بالعزلة والتقوقع والتخلف .وبهذا الصدد كان اليمن سباقا لدراسة وفهم وهضم تلك المتغيرات على المستوى العالمي فأتبع اليمنيون طريق الحوار العقلاني الهادئ المتسم بالحكمة منهجا واستراتيجية لا تكتيكاً مرحلياً .. فقدم اليمنيون تجربة فذة وفريدة من نوعها في الحوار عندما تعاملوا مع قضية وحدة وطنهم بذلك الاسلوب العصري الراقي وبتلك الطريقة المثلى التي اذهلت العالم فكانت الوحدة اليمنية امرا واقعا في الثاني والعشرين من مايو عام 1990م في وقت كانت منظومات وامم وشعوب تتشرذم وتتفكك .. وماذا يعني هذا ؟ والإجابة بكل بساطة تعني ان للحوار في المجتمع اليمني ثقافة متجذرة ليست وليدة الصدفة أو اليوم بل انه ارث حضاري وثقافي لحضارات يمنية متعاقبة حتى صارت ثقافة الحوار جزءاً اساسيا من التكوين البيولوجي والنفسي للإنسان اليمني .ولأن كل شيء يشيخ ما عدا القيم والمبادئ والاخلاق فقد حمل اليمنيون معهم طوال التاريخ اخلاق وقيم ومبادئ حضارتهم المتعاقبة وصارت نبراسا يستنيرون بها في كل مراحلهم التاريخية ومرتكزا رئيسيا لتفاصيل حياتهم اليومية ومرجعية مثلى لمعالجة كل معوقات ومشاكل الحياة وكل القضايا الخلافية فيما بينهم بالحوار الهادئ الذي يحفظ للجميع حقوقهم وللحياة ديمومتها ومسارها الصحيح .إن عملية بناء الوطن وتطوره وتحديثه لا يمكن أن تتم الا بعد تهيئة الارضية المناسبة لذلك اذ لا يمكن حتى مجرد التفكير في التخطيط لعملية تنموية شاملة في البلاد في ظل وجود قضايا خلافية وعدم وجود رؤية سياسية واضحة المعالم الأمر الذي استدعى اطلاق عملية حوارية واسعة النطاق وحصر العوائق التي تشكل حجر عثرة امام تقدم الوطن وتطوره واسناد عملية تشخيصها ومعالجتها والبحث عن جذورها ووضع التصورات العملية لحلها لكوكبة لامعة من ابناء الوطن وهذا ما تم بالفعل وعلى مدى اكثر من عشرة اشهر عكف 565 من كوادر الاحزاب والتنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني وممثلين عن المرأة والشباب على دراسة وبحث قضايا الوطن الشائكة وبلورة الحلول لها ورسم خارطة الطريق والرؤى الاستراتيجية لعملية التغيير لضمان الارتقاء الى مرحلة جديدة في التاريخ اليمني الحديث والمعاصر ووضع لبنات وأسس قوية لبناء الدولة المدنية الحديثة وما يتطلب ذلك من تكريس لمبادئ التوافق والشراكة الحقيقية في بناء اليمن الجديد فتوزع ممثلو مختلف الأطراف المنضوية في الحوار في فرق عمل خصصت كل منها لمناقشة قضية من القضايا الخلافية في الوطن كالقضية الجنوبية وقضية صعدةوالعدالة الانتقالية وبناء الدولة والحكم الرشيد وأسس بناء الجيش والامن واستقلالية الهيئات والحقوق والحريات والتنمية الشاملة وهي قضايا تبنى عليها الدولة المدنية الحديثة والمتطورة .ومضت مسيرة الحوار كما خطط لها وشخص المتحاورون تلك القضايا بشعور عالٍ بالمسؤولية الوطنية واشرف على الحوار الأخ الرئيس عبدربه منصور هادي بأسلوبه الحكيم في معالجة القضايا الخلافية بين المتحاورين الى ان وصلت السفينة الى مرفأ الامان عبر مسيرة حوارية ظل يراقبها الكثير من المراقبين والمتابعين للشأن اليمني عربا واجانب بالإضافة الى متابعة الامم المتحدة لعملية الحوار من خلال مساعد الامين العام للأمم المتحدة ومستشاره الخاص لشؤون اليمن جمال بنعمر إلى جانب رعاة المبادرة الخليجية ممثلة بالدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن ودول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي.ثمة استنتاجات يمكن استقراؤها من مؤتمر الحوار لعل ابرزها :· ان مخرجاته سترسم شكل الدولة الاتحادية الجديدة القائمة على العدل والمساوة والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات .· ان مخرجات الحوار ستشكل الاسس العملية لعملية التحديث والتطوير والبناء للمجتمع المدني.· ان مخرجات الحوار ستعمل على تحقيق نقلة نوعية في بنية النظام السياسي اليمني وتحديثه وتطويره بما يضمن له تحقيق الاستقرار السياسي في البلاد ومواكبة الأنظمة السياسية التي سبقت اليمن في هذا المضمار .· ولان السياسة اقتصاد مكثف سوف تصبح عملية البناء الاقتصادي مسألة مدروسة وعملية كونها ارتكزت على اسس سياسية مستقرة الامر الذي سيمكن من احداث نقلة اقتصادية في المجتمع والبحث عن مكامن ثروات البلاد الطبيعة وفتح البلاد امام حركة الاستثمارات العربية والدولية والدخول مع شركاء اليمن واصدقائها في شراكة اقتصادية وتنموية متطورة .· ان مخرجات الحوار ستسهم بشكل ايجابي في تجذير ثقافة الحوار وهي تجربة يمنية رائدة شهد لها العالم واشاد بها كل المراقبين والمتابعين للشأن اليمني .وبوصول مؤتمر الحوار إلى ختام مسيرته المباركة بنجاح .. فأن أبناء اليمن يصنعون مجدا جديدا ويقدمون للبشرية أنموذجا متميزا لحل قضاياهم عبر الحوار ودليلا جديدا على حكمتهم المشهودة وبذلك يكون هذا الإنجاز التاريخي المشرف الخطوة الاولى في مسيرة الالف ميل لعملية طويلة الامد لبناء الدولة اليمنية المدنية الحديثة والمتطورة بعد ان تمت بلورة المعالجات لكل المعوقات التي كان من الممكن ان تعترض طريقها.
|
تقارير
ثقافة الحوار في اليمن .. إرث حضاري لحضارات تليدة
أخبار متعلقة