الدكتور إدوارد سعيد
نجمي عبدالمجيد لم يجانب الحقيقة الصحفي البريطاني روبرت فيسك عندما وصف الدكتور ادوارد سعيد بأنه اكثر صوت فعال في الدفاع عن القضية الفلسطينية. بل وضع المكانة الثقافية لهذا المفكر العالمي في اطار مرحلتها السياسية والتي لم تفصلها سنوات المنفى عن حقيقة الانتماء الاول وهو الوطن.[لا يوجد نمط فقرة][فقرة بسيطة]لذلك لم يقف فكرة عند حدود المشاركة بل كان عليه كعربي ان يوجد صيغة جديدة لاعادة التأسيس للرؤية المتصلة بين فكر الغرب وعقلية الشرق. ومن هنا لم تكن مسألة الابداع عنده مجرد تعامل مع مراكز قوى في مركزية الحضارة الغربية ، بل خلق مسافة من الوعي مستقلة حتى يوجد ما يدافع عن كيانه كفرد ما زال يشعر بأن الغرب هو هيمنة تاريخية وحضارية والمفارقة السياسية هي التي وضعته في هذا المحك.غير ان من هذا لم تلد حالة الجمود ، فهو قد ادرك عبر الفكر والتجربة أن الثقافة هي فعل المقاومة ودور المثقف لا يقف عند حدود الكلمات والتنظير ولكنه رؤية حضارية لهذا الفعل وهو يتجاوز حدود وقعه الى ارحب مستوى من علاقات الانسان بالاخر.نتعرف على عدة حقائق في كتابات الدكتور ادوارد سعيد ، ومنها مسألة الشرق الاوسط وقضايا العرب ونظرة الغرب لهذا الجزء من العالم. وكيف دجن هذا الغرب رؤيتة للشرق ضمن اطر فكرية وسياسية وثقافية جعلت منه حالة دائمة من اعادة انتاج القصور والعجز وعدم القدرة على صياغة نظرية لحركة التاريخ وفي ذلك ما يجعل مستوى هذه الامة لا يكون عند درجات الانسانية فهي خاصية للغرب اما الشرق فله دون ذلك.يقول احد الكتاب الذين ادركوا عند اية درجة من الوعي الحضاري وقراءة نفسية الامة العربية في كتابات ادوارد سعيد: ( عندما يتابع المرء اخبار الثورات العربية- سواء في وسائل الاعلام العربية او الاجنبية - يدهشه كيف ان ادوارد سعيد ما زال حاضراً في مركز تحليلات تلك الاخبار . يحتاج المرء فقط ان يأخذ في اعتباره حجج ادوارد سعيد الصادقة حول المواضيع المتصلة بهذه الاحداث وفي مقدمتها افكاره عن الديمقراطية ،الحرية ، الحداثة، التنمية ، الهوية ، الاسلام ، العرب ، وسائل الاعلام وماشابه ذلك.من جانبي تذكرت ادوارد سعيد عندما رايت جون الترمان يتحدث عبر قناة « سي . إن - إن» في برنامج عن ما وراء الحدث محللاً وجهة نظره عن الاوضاع في تونس ، بعد ساعات قليلة من هروب الرئيس زين العابدين بن علي. تم تقديم الترمان في قناة « سي - إن-إن» بوصفه خبيراً بشؤون الشرق الاوسط وهو لقب مستعار يمنح من قبل جامعات نيو انفلاند للمستشرقين الجدد في عصرنا الحالي. يعمل الترمان مديراً وزميلاً باحثاً لبرنامج الشرق الاوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية وهي مؤسسة بحثية امريكية تزود المسؤولين الامريكيين بتحليلات استشارية للتعامل مع القضايا الاستراتيجية في الشرق الاوسط. كان مقدم البرنامج ما يكل هولمز قد طرح على الترمان سؤالاً نموذجياً عن كل ما يحدث في هذا الجزء من العالم سائلاً اياه عن مدى ما يمكن التنبؤ به في تلك الرقعة الجغرافية من المعمورة وكما هو معروف في الثقافة الغربية فإن السمة الاساسية التي تميز هذه المنطقة في السرد الاستشراقي هي عدم القدرة على التنبؤ بمواقف وسلوك الناس الذين يعيشون فيها لان القدرة على التنبؤ هي عرض من اعراض التفكير العقلاني والمنطقي وبطبيعة الحال فإن التفكير المنطقي والعقلاني هو ابعد ما يكون عن عقلية الشرق على نحو ما تذهب الرؤى الاستشراقية. طرح ما يكل هولمز على الترمان سؤالاً عما اذا كان قد توقع حدوث شيء مثل هذا بتلك الطريقة السلمية والحضارية كانت الاجابة نموذجية كما كان السؤال حيث لم يخيب خبير الشرق الاوسط توقعات مضيفه او محاوره مجيباً بأنه ما كان له أن يتوقع ما جرى وبهذه الطريقة. لم تكن اجابة الترمان مثيرة للدهشة على الاطلاق بالنسبة لي او لاولئك الذين هم على بينة من الصور الملفقة بشكل صارم حول هذه المنطقة وشعوبها في العقل الغربي. وفي ظل وجود الاف من السرديات الشرقية عن الشرق ككيان جغرافي وسياسي وثقافي فإن العقل الغربي لا يمكنه قبول فكرة أن هذه المنطقة يمكنها الوقوف خلف أي شيء ايجابي او مفيد وهو ما يحفظ الصورة التقليدية القبيحة عن هذه المنطقة ذات النهج الغرائبي او الارهابي فعلى مر التاريخ تم نقش مكان لهذا الاقليم الجغرافي في العقل الغربي على انه مكان للرومانسية والكائنات الغريبة وذكريات الصيد والمناظر الطبيعية والتجارب الرائعة. في عام 1978م اصدر الدكتور ادوارد سعيد كتاب الاستشراق بالانجليزية في امريكا فكان في هذا العمل الفكري الرائد للثقافة الغربية الاستشراقية امام ازمتها التاريخية مع الشرق ، أن نقد هذا السرد الثقافي - السياسي الذي اسس على قواعد صممها العقل الغربي لخدمة عصور الهيمنة التي سادت منذ اوليات النهضة في الغرب واعادة اكتشاف الشرق حددت مساحة من التخيل حصرت اسباب التعامل في نقاط محدودة لا يمكن للغرب تجاوزها وهو ينظر الى الشرق فالجغرافيا قد رسمت في العقل بل اسقاطها على الواقع وهنا تصبح مبادئ الاحكام والقواعد للعمل الفكري قد وضعت في اطر ظلت تقود عقليات الغرب المنظر في امور الشرق في حصار هذه الاشكالية فهي لم تكن صناعة عهود الاستعمار فقط بل صممت وكأنها قدرية زمنية يعجز الشرق عن الخروج منها. بعد مرور هذه السنوات على صدور كتاب الاستشراق نكتشف انه ليس كتاباً في نقد ذلك الفكر الثقافي بل هو ايضاً كتاب في الفكر السياسي على أعلى المستويات العلمية في قراءة رؤية العقل الغربي والذي لم تكن قيادة العمل الاستشراقي الا جزءاً من مشروعه المحول للشرق الى ساحة تجارب وصناعة تاريخية تقدم كل صور الانكسار والخمول وفقدان الارادة في مواجهة الغرب صاحب حق التسيد في قيادة العالم فالعالم الآخر الغربي قد وضع الشرق في حصار العاجز عن انتاج مشروعه المعرفي وطالما ظل في هذا الاستلاب الزمني يصبح عجزه السياسي والثقافي عن تحدي الغرب هو الفاجعة التي تحدد هوية الشرق حالة مستمرة في الاندحار وتلك مسألة تدخل فيها مواقف المثقف الشرقي والذي يعيد انتاج ازماته وتساقط عقليته وعدم مقدرتها على فهم حسابات ذاتها. هذه النظرة التي قادت صناعة عمل الاستشراق نحو الشرق ما هي إلا سياسة مجتمع جعل من نفسه هو من يعيد رسم ملامح الشرق عبر هيمنة الفكر العلمي وثقافة تبحث عن متعة المغامرة وآلية توزع قوة القهر السياسي على اكثر من اتجاه فكانت هذه الأعداد الكثيرة من الدراسات والبحوث والكتابات الادبية والرسومات عن الشرق انتجها العقل الغربي عبر خصوصية ذاته وكأنه في ذلك لا يقدم المفروض من الحالة بل يسقط نفسيته وتخيلاتها على هذا المكان حتى يرى فيه ما يجب أن ينظر اليه الغرب فجاءت المعادلة مشوهة الملامح محاصرة في هذه الدرجات من الاسراف في اعادة هيكلة العلاقات بين الثقافات والشعوب. لقد خلق كتاب الاستشراق مستويات من التصدع في هذه البنية المفروضة على صور الشرق عند الغرب فهل اكتشف الغرب حقيقة الخديعة التي صنعها الاستشراق في العقل الغربي؟ هذا الكم من طبقات الانتاج الثقافي - السياسي الغربي استطاع الدكتور ادوارد سعيد اختراق قداسته وتمزيق تلك الهالة من الحجب القاصرة المتحولة في تعاملها مع الشرق الى تابو مقدس واظهر للحضارة والثقافة والتاريخ أن الفكر الاستشراقي بحاجة الى اعادة تطهير من زوائد لم تخدم المعرفة بقدر ما ساعدت على صياغة قدر كبير من قوى الاستبداد والظلم بحق الشعوب في هذه المنطقة فالعالم الغربي لم يأت الى هنا من اجل خلق المدنية عند افراد هذه الامة ولكن كي يفرض عليها صورة من صور الدونية والعجز التي تنتج من شروط الاستمرارية. يقول الاستاذ فواز الطرابلسي عن اهمية كتاب الاستشراق في الثقافة العالمية : ( الاستشراق مؤلف كبير مكتوب بأسلوب حصيف ومعقد اكتسب شهرة عالمية فصار يشكو مما تشكو منه الروائع العالمية بعدما اعترفت به وسائل الاعلام وتبنته الحياة الاكاديمية وتداوله الجمهور الاوسع . صار الكتاب معروفاً بما يروى عنه ويلخصه اكثر مما هو معروف بما فيه . الشائع عن الاستشراق انه تمرين نظري في ثنائية « المعرفة - القوة « مطبقاً على العلاقة بين شرق وغرب في مسح اولي لموجوداته يتبين أن الحيز الاكبر منه مخصص لتاريخ نقدي دقيق وبطيء وعاج بالاسماء والمراجع لمدرسة اكاديمية وفكرية وثقافية هي مدرسة المستشرقين لكن مسحاً ثانياً اعمق وادق يستظهر الوميض الذي يشع من البناء المحكم والجهد التوثيقي والدأب البحثي والموهبة التحليلية والذوق الادبي والثراء الثقافي ، قبل أن يطلق سعيد شرارات الخيال والجمال والمحاججات الذكية ونفاد النقد وعمق التطلب الفكري. يعاين كتاب الاستشراق عملية انتاج الشرق في اطار انتاج الغرب لنفسة على يد جماعة احتكرت مع الوقت ترجمة هذا الشرق وتأويله وتفسيره وتقديمه للغربيين والشرقيين على حد سواء ويتتبع الكتاب ومن ثم نشوء تلك المدرسة وتطورها فيعرض ابحاث رجالاتها وانجازاتهم ويناقش اعمالهم مقارناً في ما بينهم من خلال التحقيب لمراحل تطور افكارهم وابحاثهم والمناهج. ولا يكتفي سعيد بذلك بل يقيم العلاقات الضرورية بين الاستشراق ورجالاته وبين مرجعيتين اثنتين في التاريخ والثقافة الغربيتين. المرجعية الاولى هي علاقات المدرسة الاستشراقية المتعددة الاوجه بالمؤسسة الاستعمارية ثم الامبريالية الاورو- اميركية بمصالحها واستراتيجياتها والسياسات وهي علاقات لا تختزل بالتطابق والمباشرة والتبعية ، بل ترى ان مدرسة الاستشراق لا يقتصر دورها على المكتشفات والابحاث والدراسات في مضمار اللغات والجغرافية والاثار والثقافات الشعبية والديانات والحضارات الشرقية قديمها والحديث . يصل دور المستشرق احياناً الى مستوى الفعل والتاثير المباشرين في مراكز القرار السياسي والاقتصادي في الدول الاستعمارية او الامبريالية حيث يلعب دور المثقف الهامس في اذن الامير تقرر نصائحه واستشاراته وتقديراته مصائر شعوب وبلدان بأكملها . المثال المعاصر عن هذا النمط من المستشرقين هو البريطاني برنارد لويس مستشار شؤون الاسلام والعراق خلال عهدي جورج بوش الاب والابن ناحت مصطلح صدام الحضارات وصاحب النصحية بغزو العراق رداً على هجمات الحادي عشر من ايلول 2001م. المرجعية الثانية هي الوشائح التي تربط تيارات مدرسة الاستشراق بتطور العلوم الطبيعية والاجتماعية والانسانية الغربية. يكشف سعيد هنا أن الوصل ليس مباشراً ولا هو آلي وإن يكن يلاحظ انحياز المستشرقين الى مذاهب ومنهجيات دون اخرى وخصوصاً استبعادهم المدارس التاريخانية والماركسية ومنهجية « التاريخ الجديد». غير أن التوثيق الموسوعي الذي يمارسه ادوارد سعيد لن يقتصر على التاريخ الفكري والثقافي لابرز تيارات المدرسة الاستشراقية. يحلل نقدياً اعمال ادباء ومفكرين وسياسيين اسهموا في انتاج الغرب لشرقه ويخلص الى أن المستشرقين يشتركون في عدد من الثوابت في نظرتهم الى الشرق اهمها: 1 -النعرة الجوهرية : والمقصود بها تقديم الغرب والشرق بما هما جوهران متمايزان يختص كل منهما بخصائص اصلية ثابتة صارت طبيعة ثانية لكل منهما . لكن التمايز يفصح عن تراتب عمودي صارم وثابت حيث العقلانية والتطور والرقي هي جوهر جماعة والروحانية واللاعقلانية والتخلف جوهر جماعة اخرى. 2 - التعميم : أي الافتراض ان معرفة الجزء تكفي لمعرفة الكل. 3 - التنميط أي اضفاء خاصية واحدة من خصائص الجماعة على الجماعة كلها. 4 - الجمود : تصوير عالم الشرق وحياته على انهما ثابت لا يتحول ما يعادل انعدام فعل الزمن والتاريخ فيه. 5 - التفرد : وهو عكس التعدد اذ « الشرق» دين واحد ومجتمع واحد وعقل واحد وجبلة نفسانية واحدة وثقافية واحدة. 6 - الثقافوية : أي تفسير افكار الشرقيين وسلوكهم ونمط حياتهم على اساس مبدأ تفسيري اوحد هو ثقافتهم التي تختزل الى دينهم بالدرجة الاولى. في الفصل الاول من كتاب الاستشراق يختار الدكتور ادوارد سعيد من تاريخ الاستعمار البريطاني لمصر نصوصاً من محاضرة الشخصية السياسية ارثر جيمس بلفور تعود الى 13 حزيران 1910م ( حول المشكلات التي ينبغي أن نعالجها في مصر) لم تأت هذه النظرة من سياق بعيد عن علاقة السياسة بالثقافة وموقف اهل الفكر من عملية الاستشراق والتي هي من انتاج المدرسة السياسية الغربية هذا الاستشهاد يجعل من زمن ظهوره نقطة ارتكاز على قواعد ثابته في معرفة الغرب للشرق. وما بين اختيار ادوراد سعيد للنص بلفور وما اورد فواز طرابلسي من رؤية للمستشرق برنارد لويس حول علاقة الشرق بالغرب ندرك بان المسافة الزمنية ما بين صاحب مشروع والوعد الذي منح اليهود ارض فلسطين والتي هي موطن ادوارد سعيد وبين برنارد لويس الذي اطلق على عصرنا ، عصر صدام الحضارات وصاحب مشروع الشرق الاوسط الجديد الهادف الى تقسيم المنطقة العربية بعد اتفاقية سايكس - بيكو نجد ان الفكر الاستشراقي في عقلية الغرب شكل الاطار المرجعي لمعظم الخطوات العملية لصناعة القرار السياسي في الغرب. ومن هنا نعرف ان صناعة القرار في العمل الغربي - السياسي لا تولد خارج المرجعية العلمية في هذا الجانب بل تلك السرديات الشرقية التي جمعتها افكار الاستشراق يمتلك القدرة عبر حقب من الازمنة لطرح تراكم متصاعد في استمرار نفس الصورة عن الشرق في ذهنية الغرب واتساع المسافة بينهما والانغلاق على الخاصية الذاتية حتى تظل مسألة التفرد في صفات العقل من يحكم اشكال العلاقة بينهما. عندما نقرأ مؤلفات الدكتور ادوارد سعيد نجد ان الرؤية السياسية لديه كمثقف عالمي غير غائبة عن وعيه بمنزلة الثقافة في هذا الاتجاه. فالسياسة ان هي تحد وصراع مراكز نفوذ وتحديد مصائر شعوب فالثقافة هي وطن ومقاومة لان العقل بدونها ينكسر تحت ضربات الحماقة وعدم الوعي على أية ارضية يقف. لقد مارس ادوارد سعيد الفكر والعمل السياسي من خلال مقدرة رجل الثقافة القادر على تحديد المسافات بين القضايا والمواقف فانتاج عدة اعمال فكرية خالدة سوف تظل مفتوحة الطرق المعرفية لحوار العقل لعدة اجيال قادمة فنحن عندما نعود بهذه الاعمال بعد كل قراءة نكتشف ابعاداً اخرى غير التي وصلنا اليها في السابق وهذا يدل على ان عالمية الفكرة هي ما يخلق لها هذا التنوع والتواصل مع الانسانية ففي الكتابة الثقافة والامبريالية) يصل الى اقصى حدود المطابقات وما تصنعه المعرفة إن هي صدرت عن عقلية التسلط على الغير فهي تخسر صيغة المعرفة في جوهر الطرف الأخر لتصبح اداة للاستحواد والمسخ واعادة نسيج ما كونته مخيلتها عن عالم ما كان له ان يوجد في تصورها خارج عالمها هي. لقد ادرك الدكتور ادوارد سعيد ان الشرق له حساباته مع التاريخ وتأتي الثقافة في مقدمة المعادلات الفكرية التي تعيد صياغة مصائر الشعوب فالمعرفة إن لم تكن قوة انتاج فهي لا توجد غير التراجع والانحسار عند مستوى العجز المطلق.