الانتظار المفعم بالجلالة
لا يمكن للشوق إلا أن يكون راقياً، سامياً، يحلّق خلف الأزمنة والأمكنة. وكلما ارتقى، اتقد واضطرم، وعصفت به قوة الانتظار المستمر، هو الشوق الذي لا يبلغ نهاية ولا منتهى، هو حالة الظمأ الدائم الأبدي، والولوج في سر الانتظار الذي لا يدرك بل يعاش.تلك المعاني نستشفها من قصيدة “درويش”، ويطيب لنا الإصغاء إلى لهفة الشوق التي تعبق بها حروف القصيدة.تتكرر كلمة (انتظرها) مع كل حالة من حالات القصيدة وتتدرج من أولى لحظات الانتظار إلى بلوغ الوحدة والانصهار. ويبقى الانتظار محور القصيدة، ومحور قلب الشاعر، حتى بعد اللّقاء.هو انتظار مفعم بالجلالة والأبهة، فتمنحك القصيدة إحساساً بأنك في عالم العظمة، حيث الانتظار شرف رفيع، ورقّة لا متناهية، فالمنتظر فارس نبيل والمتوقَّع مجيئها، روح أو كيان من عالم غير محسوس وغير مدرك. كأنه ينتظر من لا يعرفه الأرضيون، بل روح آتية من خارج الزمان لتحلّ في زمان الفارس وتبدل معالم حياته.بكأس الشراب المرصع باللازرود انتظرها،على بركة الماء حول المساء وزهر الكولونيا انتظرها،بصبر الحصان المعد لمنحدرات الجبال انتظرها،بسبع وسائد محشوة بالسحاب الخفيف انتظرها،بنار البخور النسائي ملء المكان انتظرها،برائحة الصندل الذكرية حول ظهور الخيول انتظرها،يتسرب إلى تلك الأبيات، انتظار هادئ، يترافق والارتواء من كأس الوقت المرصع بالأحجار الكريمة، حيث يظهر كأنه كنز ثمين منح للمنتظر، ليترقب الحضور. ويتجلى حياً من خلال رمز الماء، الذي هو الحياة، وقوياً يشابه استعداد الأحصنة للولوج في منحدرات الجبال الصعبة والوعرة. وتختلط رائحة البخور النسائي برائحة الصندل الذكرية لتشكل وحدة حاضرة قبل اللّقاء.في هذا المقطع المعطر بزهر الكولونيا ورائحة الصندل والبخور، نتبين انتظاراً صبوراً، وقوراً مشتعلاً في آن. وكأن (درويش) يرسم لوحة سوريالية ساحرة، يخطّ فيها الكلمات عطراً يتجسد في انتظار شغوف نبيل وهادئ، ولكنه مشتعل ومتقد. ولا تتعجل فإن أقبلت بعد موعدها فانتظرها،وإن أقبلت قبل موعدها فانتظرها،ولا تجفل الطير فوق جدائلها وانتظرها،لتجلس مرتاحة كالحديقة في أوج زينتها وانتظرها،لكي تتنفس هذا الهواء الغريب على قلبها وانتظرها،لترفع عن ساقها ثوبها غيمة غيمة وانتظرها،وخذها إلى شرفة لترى قمراً غارقاً في الحليب وانتظرها،وقدم لها الماء، قبل النبيذ، ولاتتطلع إلى توأمي حجل نائمين على صدرها وانتظرها،ومس على مهل يدها عندماتضع الكأس فوق الرخامكأنك تحمل عنها الندى وانتظرها، يدعو الشاعر المنتظرَ إلى التريث وعدم استعجال المجيء، رغم الشوق المتقد، والمترقّب، فليس الموعد الدقيق هو غاية الانتظار، بل الغاية الحقيقية هي استمرارية الشوق كشعلة تشتعل بذاتها لا تنطفئ ولا تهمد. فإن أتت قبل الموعد أو بعده، يبقى الشوق عاصفاً في النفس لا يرويه لقاء ولا يشبع توقه الحضور. ويهيء المترقبُ جواً راقياً رومنسياً، ويهتم بأدق التفاصيل التي تليق بالروح التي ينتظرها والتي لا بد أنها آتية. وتسيطر الرقّة في هذا المقطع، فيدعو الشاعر المنتظر إلى التعامل مع الآتية بليونة وحنو، كي تكون الآتية مرتاحة ومتنعمة، وهي الحاضرة بوهجها السماوي، يخشى الشاعر عليها من غرابة العالم، فيحاول تقديم كل ما يليق بحضورها الجلل.تحدث إليها كما يتحدث نايإلى وتر خائف في الكمانكـأنكما شاهدان على ما يعد غداً لكما وانتظرهاولمع لها ليلها خاتما خاتما وانتظرهافي حضورها رهبة وخشوع، فيكون الحديث معها همساً شاعرياً ولغة خاصة غير تقليدية، ما يدلل عليه “درويش” بحديث الناي إلى وتر خائف في الكمان. هو حديث راق كما الموسيقى، ترتفع بالإنسان إلى الأعالي، وتفيض على روحه تأملات السماء. هو حضور آني وأبدي في آن معاً، لأنه امتداد الأمس إلى الغد اللامتناهي وغير المحدود بخطوات الوقت وقيود المكان. فيغرق المنتظر والآتية في وحدة تأمل الأبد وبيقى الانتظار مضطرماً.وانتظرهاإلى أن يقول لكَ الليل:لم يبقَ غيركما في الوجودفخذها، برفق، إلى موتك المشتهىوانتظرها!…ويقودهما الشوق إلى الانصهار في قلب الليل حيث السكينة والسكون، فيخلو العالم إلا من وجودهما، ومن شوقهما الشغوف إلى الانتقال بالموت إلى الأبد حيث لا ينتهي الشوق والانتظار بل يتحولان إلى حقيقة تعاين وتعاش في النور السرمدي، الأزلي. * القصيدة من ديوان (سرير الغريبة)، دار رياض الريس، لندن، الطبعة الأولى، (125-128).